27 أكتوبر 2020
حينما تغدو نُخبنا عوامّ
نشر أحد الأصدقاء من الناشطين قبل أيام دعوة إلى فعالية ثورية، وكرر نشرها عدة مرات. لفت نظري خطأ في تفاصيل الدعوة، فراسلته لتصحيح الخطأ، فأجابني: "والله نشرتها وما قرأت التفاصيل!". استغربت وعجبت من ذلك، إلا أن عجبي ازداد بعد أيام حين علمت أنه لم يحضر تلك الفعالية أصلاً!!
أعاد ذلك الموقف إلى ذهني قضية طالما شغلت حيزاً من تفكيري وهي التنظير والعلم الموسوعي الذي ابتُليت به مجتمعاتنا عموماً. فقلما تجد مجلساً أو لقاءً يخلو من التنظير والخوض في كبرى المسائل وصغيرها، وتجد جميع من في المجلس يدلي بدلوه متنقلاً من مسألة إلى أخرى ومن قضية إلى ثانية، وهو في كل ذلك يصحّح ويخطّئ وكأنه عالم يغرف من بحر!
يمكن أن نقول إن عامة أفراد المجتمع معذورون في ذلك؛ فهم غالباً مغلوب على أمرهم ولا يملكون أي سلطة لتغيير شيء من واقعهم المرير، وبالتالي تجدهم يفرغون حنقهم وغضبهم في تلك الأحاديث والنقاشات التي في الغالب لا يتفق اثنان فيها على رأي واحد. وهذا انعكاس طبيعي للحالة الاجتماعية التي تمر بها أي أمة من الأمم في عصر الانحطاط. ولكن ما يثير الامتعاض ولا يمكن تقبّله هو انتقال تلك الظاهرة إلى مّن يسمّون بـ "النخب" ورموز المجتمع من سياسيين وقادة ومثقفين وناشطين، والمتابع لتفاصيل الشأن السوري والعربي على حد سواء يعي ما أكتب تماماً.
حقيقة، هذه ظاهرة تستحق دراسة تحليلية معمّقة، واستقصاء الأسباب والغوص فيها، إذ يكفي استرجاع سريع لشريط الأحداث خلال السنتين أو الثلاث الماضية لنلاحظ أن الجدل والتنظير وإطلاق الأحكام المجردة هو الطاغي على المشهد، مقابل اضمحلال العمل الفعلي، أو على الأقل تطبيق تلك الأحكام و"الحكم" على أرض الواقع.
فعلى سبيل المثال، إذا جمعنا بيانات الفصائل، على كثرتها، نجدها جميعها تبدأ بقوله تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا...."، وتُذيّل بالدعوة إلى رص الصفوف وتوحيد العمل ونبذ الفرقة، إلا أن أياً من تلك الصفوف لم تُرص، والعمل ازداد تشتتاً بدل أن يتوحد، والفرقة تزداد يوماً بعد يوم. وللناس الحق في أن تتساءل: إن كنتم جميعاً متفقون في بياناتكم على التوحد ورص الصفوف فمَن تخاطبون؟ وماذا تنتظرون؟ وأنتم المعنيون بذلك والقرار في أيديكم!
والحال تنطبق على الشخصيات السياسية والكيانات وحتى الناشطين. تُعقد الاجتماعات والندوات واللقاءات، والجميع يناقش ويحلل ويضع الخطط والبرامج، ثم ماذا؟ تنتهي الاجتماعات ويعود كلٌّ إلى عمله، وتبقى تلك الخطط والمقترحات للاستئناس فقط.
أين الخلل إذاً؟ هل وصل الحال بنخبنا إلى أن أصبحت تكتفي بالكلام والتوصيف، وبتحقيقه تظن أنها أسقطت الواجب عنها وأدت الأمانة الملقاة على عاتقها؟! هل يظن مثقفونا ومفكرونا أن وظيفتهم تقف عند حدود الكلام، والكلام فقط؟! وهل تتحول الأقوال إلى أفعال دون نفس متقدة تدب الروح فيها؟
حتى التفاعل مع الأحداث المصيرية والمفصلية تجده روتينياً وبروتوكولياً، يقتصر في كثير من الأحيان على فعاليات تتضمن كلمات وخطباً تصلح لكل الأحداث مع تغيير التاريخ فقط، وربما اقتصر الأمر على المناصرة في شبكات التواصل الاجتماعي كما حدث مع صديقنا "الناشط".
ويأتي بعد ذلك مِن المثقفين مّن يبرر تقصيره بإلقاء اللوم على الشعب ويقول لك إن المشكلة في مجتمعاتنا التي لا تمتلك النضج والوعي الكافي، ولا تتفاعل مع مستوى الحدث! والحقيقة أن ما نجده من حال مجتمعاتنا هو نتيجة طبيعية للحال المترهل الذي وصلت إليه نخبها.
إن أشد ما يؤلم في النخب أن تتحول من مرحلة حمل همّ القضية والعمل والتضحية في سبيلها إلى مجرد التنظير وإعطاء المواعظ والدوران في حلقة مفرغة من الجدل العقيم. فتغدو ميادين العمل والإنتاج ساحاتٍ للمهاترات والأخذ والرد.
حينما كنت صغيراً كان والدي -حفظه الله- كثيراً ما يقص على مسامعنا حكاية أحد المشايخ، حيث كان يخطب في إحدى الجُمع وكان موضوع خطبته عن الصدقة وفضلها في تكاتف المجتمع وزيادة عُرى الأخوة بين أبنائه، وبدأ يحث الناس على التصدق كلٌّ قدر استطاعته، ولو أن يسكب الجار لجاره شيئاً من طعامه حتى وإن كان "صحن محشي".
انتهت الخطبة وعاد الشيخ إلى بيته، وبالصدفة كانت زوجته قد طبخت المحشي. نظر وإذ بالطعام ناقص، فسأل ابنه: ليش المحشي ناقص؟ فأجابه الولد: (سكبنا صحن للجيران)، رد الشيخ غاضباً: ومين قلكن تسكبوا؟ قال: "مو أنت قلت بخطبة الجمعة إن الواحد يسكب لجاره الفقير من الأكل الي طابخه"، قال الشيخ: "ابني أنا عم احكي على محشيات الناس مو على محشياتنا!".
خلاصة القول: كل ما أخشاه أن يصبح مثقفونا ونُخبنا ذاكَ الشيخ!
يمكن أن نقول إن عامة أفراد المجتمع معذورون في ذلك؛ فهم غالباً مغلوب على أمرهم ولا يملكون أي سلطة لتغيير شيء من واقعهم المرير، وبالتالي تجدهم يفرغون حنقهم وغضبهم في تلك الأحاديث والنقاشات التي في الغالب لا يتفق اثنان فيها على رأي واحد. وهذا انعكاس طبيعي للحالة الاجتماعية التي تمر بها أي أمة من الأمم في عصر الانحطاط. ولكن ما يثير الامتعاض ولا يمكن تقبّله هو انتقال تلك الظاهرة إلى مّن يسمّون بـ "النخب" ورموز المجتمع من سياسيين وقادة ومثقفين وناشطين، والمتابع لتفاصيل الشأن السوري والعربي على حد سواء يعي ما أكتب تماماً.
حقيقة، هذه ظاهرة تستحق دراسة تحليلية معمّقة، واستقصاء الأسباب والغوص فيها، إذ يكفي استرجاع سريع لشريط الأحداث خلال السنتين أو الثلاث الماضية لنلاحظ أن الجدل والتنظير وإطلاق الأحكام المجردة هو الطاغي على المشهد، مقابل اضمحلال العمل الفعلي، أو على الأقل تطبيق تلك الأحكام و"الحكم" على أرض الواقع.
فعلى سبيل المثال، إذا جمعنا بيانات الفصائل، على كثرتها، نجدها جميعها تبدأ بقوله تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا...."، وتُذيّل بالدعوة إلى رص الصفوف وتوحيد العمل ونبذ الفرقة، إلا أن أياً من تلك الصفوف لم تُرص، والعمل ازداد تشتتاً بدل أن يتوحد، والفرقة تزداد يوماً بعد يوم. وللناس الحق في أن تتساءل: إن كنتم جميعاً متفقون في بياناتكم على التوحد ورص الصفوف فمَن تخاطبون؟ وماذا تنتظرون؟ وأنتم المعنيون بذلك والقرار في أيديكم!
والحال تنطبق على الشخصيات السياسية والكيانات وحتى الناشطين. تُعقد الاجتماعات والندوات واللقاءات، والجميع يناقش ويحلل ويضع الخطط والبرامج، ثم ماذا؟ تنتهي الاجتماعات ويعود كلٌّ إلى عمله، وتبقى تلك الخطط والمقترحات للاستئناس فقط.
أين الخلل إذاً؟ هل وصل الحال بنخبنا إلى أن أصبحت تكتفي بالكلام والتوصيف، وبتحقيقه تظن أنها أسقطت الواجب عنها وأدت الأمانة الملقاة على عاتقها؟! هل يظن مثقفونا ومفكرونا أن وظيفتهم تقف عند حدود الكلام، والكلام فقط؟! وهل تتحول الأقوال إلى أفعال دون نفس متقدة تدب الروح فيها؟
حتى التفاعل مع الأحداث المصيرية والمفصلية تجده روتينياً وبروتوكولياً، يقتصر في كثير من الأحيان على فعاليات تتضمن كلمات وخطباً تصلح لكل الأحداث مع تغيير التاريخ فقط، وربما اقتصر الأمر على المناصرة في شبكات التواصل الاجتماعي كما حدث مع صديقنا "الناشط".
ويأتي بعد ذلك مِن المثقفين مّن يبرر تقصيره بإلقاء اللوم على الشعب ويقول لك إن المشكلة في مجتمعاتنا التي لا تمتلك النضج والوعي الكافي، ولا تتفاعل مع مستوى الحدث! والحقيقة أن ما نجده من حال مجتمعاتنا هو نتيجة طبيعية للحال المترهل الذي وصلت إليه نخبها.
إن أشد ما يؤلم في النخب أن تتحول من مرحلة حمل همّ القضية والعمل والتضحية في سبيلها إلى مجرد التنظير وإعطاء المواعظ والدوران في حلقة مفرغة من الجدل العقيم. فتغدو ميادين العمل والإنتاج ساحاتٍ للمهاترات والأخذ والرد.
حينما كنت صغيراً كان والدي -حفظه الله- كثيراً ما يقص على مسامعنا حكاية أحد المشايخ، حيث كان يخطب في إحدى الجُمع وكان موضوع خطبته عن الصدقة وفضلها في تكاتف المجتمع وزيادة عُرى الأخوة بين أبنائه، وبدأ يحث الناس على التصدق كلٌّ قدر استطاعته، ولو أن يسكب الجار لجاره شيئاً من طعامه حتى وإن كان "صحن محشي".
انتهت الخطبة وعاد الشيخ إلى بيته، وبالصدفة كانت زوجته قد طبخت المحشي. نظر وإذ بالطعام ناقص، فسأل ابنه: ليش المحشي ناقص؟ فأجابه الولد: (سكبنا صحن للجيران)، رد الشيخ غاضباً: ومين قلكن تسكبوا؟ قال: "مو أنت قلت بخطبة الجمعة إن الواحد يسكب لجاره الفقير من الأكل الي طابخه"، قال الشيخ: "ابني أنا عم احكي على محشيات الناس مو على محشياتنا!".
خلاصة القول: كل ما أخشاه أن يصبح مثقفونا ونُخبنا ذاكَ الشيخ!