حياة عادية

19 يناير 2015

ريتشارد لينكليتر بعد نيله جائزة غولدن غلوب (11 يناير/Getty)

+ الخط -
لم يحصل في تاريخ السينما أن رأينا شخصيات فيلم تكبر أمامنا، في الحياة الواقعية، وليس على الشاشة فقط. ففي العادة، تكبر الشخصيات في الأفلام التي تتناول فترات طويلة من حياة شخوصها، في الفيلم فقط، يتكفَّل المكياج بذلك، إذ لا وقت لدى السينما لتنتظر. لا وقت لعدستها لتتركز على طفل ينمو أمامها: من دخوله إلى المدرسة حتى تخرجه منها. فإن كان بمقدور الكتابة امتلاك هذه الرفاهية، تجاه الزمن، فمن الصعب على الفنون التي "تحاكي" الحياة، أو تعكسها، أن تكون مثل الحياة. وليس مطلوباً أن تكون كذلك، وليس فعلها هذا معيار جودة بحد ذاته.
فهل يمكن لفيلمٍ، والحال، أن يعيش الحياة كما نعيشها؟ نعم. لمرة واحدة في تاريخ السينما حدثت هذه الحياة المتواصلة، المنتقلة من طورٍ عمريٍّ إلى آخر، ومن مشاغل فترةٍ زمنية إلى مشاغل فترة أخرى واهتماماتها. من وجه بريء مندهش، بلا شعرة واحدة فيه، إلى وجه شاب ذي عينين متشككتين، وخطوة مترددة، ولحية خفيفة. هذا ما يقدمه المخرج الأميركي، ريتشارد لينكليتر، في فيلمه "طفولة" الذي صوِّر، مع الممثلين أنفسهم، على مدار اثني عشر عاماً! عمل لا يفعله، على الأغلب، سوى هذا المخرج المنشغل، حسب ما يرينا تاريخه السينمائي، بتعقب آثار الزمن على شخوص بعض أفلامه. فمنذ عام 2002، وهو يصوِّر مع ممثله المفضَّل، إيثان هوك، وباترشيا آركيت، وطفل يدعى إيلار كولترين، وابنته لورلي، بضعة أيام من مشاهد الفيلم الذي يتناول حياة عائلة أميركية من الطبقة الوسطى، وما تواجهه من قضايا حياتية يومية، من دون وجود ما تسمى "الحبكة" الدرامية أو العقدة. لا حبكة. أكاد أقول لا قصة. القصة هي الحياة نفسها التي تستعرض شؤونها العادية أمامنا على الشاشة، وهي بهذا تقترب من فضاء الرواية التي لا حدوتة فيها. التطوّر في السرد، هنا، فيزيائي ونفسي في مسار شخوص هذا العمل السينمائي المغاير.
يبدأ الفيلم الطويل، الملحمي، على ندرة أحداثه، بلقطة لـ ميسن. طفل صغير يتطلع إلى السماء بلقطة مكبَّرة. سيماء الطفولة المندهشة بالعالم من حولها هو الانطباع الذي يصل إلينا من مشهد الطفل ميسن يحدِّق، في دهشة، بالكون. وينتهي الفيلم بـ ميسن يحدِّق، في دهشةٍ أيضاً، بصديقة صديقة زميله في السكن الجامعي، في أول يوم يلتحق فيه بالجامعة، ويضع أغراضه في الغرفة التي سيتشاطرها مع زميله المرح الذي يدعوه، على الفور، إلى جولةٍ في البرية. لا قصة في الفيلم إلا حياة هذه العائلة التي ينفصل ربُّها عن زوجته مبكراً، وهذه التي تنهض بعبء تربية طفليها في ظل تكرار أخطائها "الباهرة" في اختيار أزواجها. الأب الذي يبدو مهملاً، أو غير مستعد لتحمّل مسؤولية عائلةٍ حدثت في حياته باكراً، كأنَّ الطبيعة فاجأته بوقائع لم يكن مستعداً نفسياً للتصدي لها. الأيام لا تعطي من يهوى مناه، على حد تعبير أغنية لعبد الحليم حافظ. فمعظمنا يحصل على ما يشبه الحياة (الواقعية) التي حلم بها، وربما على ما لا يشبهها إطلاقاً، مثل ما يحصل مع والد الطفل ميسن (إيثان هوك) الذي أراد أن يكون موسيقياً، وانتهى به الأمر إلى العمل في شركة تأمين! لكنَّ الحياة تستمر. هذه نقطة قوتها العجيبة. وقد رأينا خارطة طرقها على وجهي بطلي ثلاثية لينكلير: "قبل الشروق"، "قبل الغروب"، "قبل منتصف الليل"، وتفصل بين جزئيها، الأول والأخير، عشرون سنة!
نال "طفولة"، قبل أيام، أرفع الجوائز السينمائية الأميركية التي تمهد للأوسكار (غولدن غلوب)، وجوائز دولية قبل ذلك (مهرجان برلين)، وحظي باهتمام نقدي واسع، لم يحظ به، قبلاً، فيلم لهذا المخرج المتميز الذي ينتمي إلى موجة السينما الأميركية المستقلة التي انطلق في التسعينات. 
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن