حياةٌ في ضفائر

31 يوليو 2015
تريدُ جمع المال وافتتاح محل لتصفيف الشعر (نامي نصرالله)
+ الخط -

داخل المختبر، حيث كانت تُجري فحوصات الدم اللازمة، قال الممرّض للمرأة التي استقدَمَتها للعمل في لبنان: "الفتاة جميلة، ليست كمعظم اللواتي يأتين إلى لبنان". ظنّ أنها لا تفهم العربية. لم تقل شيئاً. وعلى الأرجح، لم تهتم. تعرفُ جيداً كيف يُفكّر معظم اللبنانيين. لكن أخبرتها أمها ذات يوم أن تكون قوية. على أي حال، فقد أثنى على جمالها. وهذا أمرٌ إيجابي، وإن كان مصحوباً بعنصرية.

قبلَ سبع سنوات، حين جاءت أيناليم إلى لبنان للمرة الأولى، كانت تظن أن عملها سيكون خارج المنزل. ربما ترتدي ثياباً أنيقة، وتخرج من منزلها صباحاً وتعود إليه مساءً. صغيرة كانت، في السابعة عشرة من عمرها فقط. عرفت أن بعض فتيات ضيعتها في أثيوبيا خرجن منها إلى عالم آخر. لا تعرف عنه شيئاً. رأت فقط أن هذه العائلات لم تعد فقيرة. صارت تأكل ثلاث وجبات في اليوم. أما هي، فلم تكن تشبع.

في أثيوبيا، بدأت العمل مع والدتها في تجديل شعر الفتيات والنساء. تقول إن "طبيعة شعرنا صعبة. يظن اللبنانيون أن جميع الإثيوبيات يعرفن تجديل الشعر. وهذا ليس صحيحاً". لكنّ أشكال الضفائر الكثيرة التي تعرفها لم تكن كافية لإطعامهم. ابنة إحدى النساء التي قصدتها لتسوّي شعرها كانت قد سافرت إلى لبنان للعمل. تواصلت معها وكان لها ما أرادت.
وصلت إلى البلدِ الجديد لتكتشف أن عملها سيكون في البيت ولن ترتدي الكعب العالي. كيف تعملُ في المكان الذي ستنام فيه؟ همّها الوحيد كان التخلّص من الفقر، فالجوعُ ليسَ أمراً ثانوياً.

لم يحالفها الحظ في البيت الأول الذي اختارها. كانَ الرجل يضربها من دون سبب. يُسمحُ لها بالاستحمام مرة واحدة أسبوعياً، حتى في فصل الصيف. تبتسم وهي تحكي عن تجربتها حتى تكاد لا تعرف إن كانت قد تألمت أم لا. لكنها بكت كثيراً. لم تكن تنام، فقط تدعو الله بغدٍ أفضل. تثق بأنه لن يتخلّى عنها. في هذا البيت، تعلّمت العربية والصبر، وهذا كان مفتاحها لاجتياز المراحل، لذلك لم تفكّر بالهرب.
بعد أربع سنوات، انتقلت إلى بيت آخر. في الواحدة والعشرين من عمرها، كانت ما زالت تُرجئ أحلامها. يجب أن تشتري أرضاً وتبني بيتاً. وهذا ما فعلته. استغرق الأمر سبع سنوات. تقول إنها أحبّت العائلة الجديدة التي عملت لديها، وإن ظلّت تحرم نفسها من المتع. والمتع بسيطة، قد تكون قميصاً ملوّناً جديداً أو بعض الحليّ.

وهيَ مراهقة، كانت أيناليم تنظر إلى الفتيات الثريات. تُعجب بالأحذية التي ينتعلنها، بينما لا تملك إلّا شبشباً. أحياناً تلوم والدها، وربما ما زالت. تعود وتفكّر أنها ترتدي اليوم الأحذية التي حُرمت منها. وقد اشترت ثوباً وحذاء ذا كعب عال للذهاب إلى الكنيسة أيام الآحاد.
لم تندم على مجيئها إلى لبنان. في هذا البلد، تعلمت الحياة، على حد قولها. تختبر اليوم بيتاً رابعاً. عرفت الطيبين والمقيتين. وهذه طباعٌ. حتى أنها أصرت على مساعدة إثيوبيات للمجيء إلى لبنان. يبقى الفقر الشر الأكبر بالنسبة إليها. كانت ترى في عيون الفتيات هذه الرغبة في حياة أفضل. أخبرتهن عن حياتها وكان عليهن الاختيار. الأمر يستحق برأيها. لولا عملها، لما كانوا ليأكلوا.

بَقيَ لها ثلاث سنوات. تريدُ جمع المال وشراء أرض وبناء محل لتصفيف الشعر في العاصمة. هذا مشروعها من دون أن يكون حلمها الذي اضطرت إلى التخلي عنه. لأنها تحبّ الأطفال، أرادت أن تكون معلّمة. تؤمن أن الكون يفرغ من دونهم. تريدُ أيضاً أن تتزوج وتنجب الأطفال، لكنها تخاف. تعرفُ جيداً أن معظم الرجال سيجدونها عروساً جيدة لأنها تملك المال.
لم تستح يوماً من عملها. مازحها أحدهم وقال لها سأمنحك شهادة. "شهادة تنظيف؟"، سألت وكأنها تدافع عن نفسها. أجابها: شهادة تدبير منزلي. ابتسمت. تُحبّ عملها وإن كانت تتعب. بعد سنوات قليلة، ستصبحُ ربة عمل، وتجدّل شعر النساء. كأنها تعود إلى المرحلة الأولى من حياتها، من دون جوع. تضحك حين تتذكر أن وزنها كان 39 كيلوغراماً فقط.

اقرأ أيضاً: حسن وحسين في شرق بيروت


المساهمون