تكشف بعض البنود التي تتضمّنها خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتصفية القضية الفلسطينية المعروفة إعلامياً بـ"صفقة القرن"، بعض النوايا غير المعلنة عندما توضع في سياق تاريخي وحدثي معين، لا سيما عند الربط بين تلك البنود وبين الوثائق والأفكار والمقترحات التي تتردد منذ سنوات طويلة في الأوساط الإسرائيلية والأميركية، وعلى رأسها مشروع توطين الفلسطينيين في سيناء، تمهيداً لتفريغ قطاع غزة من السكان. وتطلق على هذه البنود تسمية "الحزم التحفيزية" التي تخصصها الخطة للدول العربية الملاصقة لفلسطين، وعلى رأسها مصر. وتتضمن الخطة الأميركية، التي أعلنها البيت الأبيض يوم الثلاثاء، بعض البنود التي تبدو بمثابة تمهيد لتوطين الفلسطينيين، حتى وإن لم تعلن جميع الأطراف المعنية ذلك. وكانت "العربي الجديد" قد انفردت بنشر تفاصيل منها في 24 يونيو/ حزيران الماضي، قبل ورشة المنامة يومي 25 و26 يونيو، التي عُرض فيها الشق الاقتصادي من الصفقة.
ووفق الخطة، سيتم تخصيص نصف مليار دولار لتطوير منشآت ومرافق الطاقة في سيناء وجعل مدنها قابلة للحياة وجاذبة للاستثمار، وتخصيص نصف مليار دولار لتطوير منشآت ومرافق المياه في سيناء لجذب مزيد من الاستثمار والأيدي العاملة المستدامة، وتخصيص نصف مليار دولار لإنشاء شبكة طرق متكاملة بين مدن سيناء لتدعيم البنية التحتية الجاذبة للاستثمار. كما سيتم تخصيص نصف مليار دولار لدعم الجهود المصرية لإنشاء وتطوير المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، وزيادة المشاريع والمصانع والمناطق اللوجستية فيها، وتخصيص نسبة من العمالة فيها للفلسطينيين.
وتشمل الخطة دعم استفادة الفلسطينيين من المناطق الصناعية المؤهلة في مصر بنظام "الكويز" (في إشارة إلى تشريع أميركي يعفي صادرات عربية معينة من ضرائب أميركية شرط أن تدخل في تصنيعها مواد أولية إسرائيلية في مناطق صناعية محددة)، وتوثيق التعاون الصناعي بين مصر والفلسطينيين وإسرائيل، والمشاركة في تأهيل مناطق صناعية بالأراضي الفلسطينية وسيناء توفر فرص عمل للفلسطينيين. إلى جانب تخصيص 125 مليون دولار تُوجّه لفتح مجالات العمل أمام المشاريع الصغيرة والمتوسطة برعاية المؤسسة الأميركية للاستثمار الخاص عبر البحار بنظام القروض، على أن يتم توجيه النسبة الأكبر من هذه القروض إلى المشاريع الفلسطينية بمصر، وذلك على مدار عامين من الخطة.
إطلاق هذه المقترحات في ظل حقيقة استمرار نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي في مساعيه لتفريغ شمال سيناء من أهلها، بحجة الحرب على الإرهاب التي لا تنتهي، وعدم إحراز أي تقدّم يذكر حتى الآن بانعكاس إيجابي على الاقتصاد المصري من مشروع المنطقة الاقتصادية الخاصة بقناة السويس وإنشاء مدن العريش ورفح والإسماعيلية الجديدة، يعكس أن هناك خطة أكبر تحاك بين القاهرة وواشنطن والقيادة الإسرائيلية، تشي بها هذه المؤشرات المكتوبة، فضلاً عن وثائق أخرى نشرتها الصحافة الإسرائيلية على مدار العامين الماضيين.
وخطة توطين الفلسطينيين في سيناء، التي يدعمها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشكل ضمني وغير معلن بكلمات واضحة، ليست جديدة على الإسرائيليين، ولا يسمعها المصريون للمرة الأولى، فقد سبق أن قال الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك في عامي 2017 و2018 إنه رفض هذا المشروع مرتين؛ أولاهما في عهد رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارغريت ثاتشر والرئيس الأميركي رونالد ريغان، والثانية خلال رئاسة بنيامين نتنياهو الأولى للحكومة الإسرائيلية، في التسعينيات.
والأكيد أن نظام مبارك على مدار 30 عاماً اهتم بشكل كبير بتعمير جنوب سيناء وتعدد مجالات الاستثمار فيها، لكنه أولى اهتماماً بالحد الأدنى بشمال سيناء، المحافظة التي ما زالت من بين الأفقر على مستوى الجمهورية، وكان المبرر الشائع في عهد مبارك لهذا التباين بين دعم شمال سيناء وجنوبها هو "الحساسية الاستراتيجية للمنطقة الشمالية، وبقاء أقسام كبيرة منها تحت السيطرة المباشرة للجيش"، لكن مبارك لم يحاول أبداً إخلاء تلك المنطقة.
وقبل ذلك بعقود، اقترحت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) عام 1953، توطين بعض لاجئي قطاع غزة (الذي كان تحت الإدارة المصرية) في سيناء. وتضمن المشروع اقتراح توطين حوالي 12 ألف أسرة على أراضٍ يجري تحويلها إلى أراض زراعية في شمالي غرب سيناء. غير أن الفلسطينيين في غزة عارضوا المشروع، على الرغم من لجوء عشرات آلاف الفلسطينيين للعيش في مصر بصفة عامة، وسيناء بصفة خاصة، على أمل العودة.
وكان النظام المصري قد بدأ تفريغ سيناء من أهلها وتجريف أراضيهم تحت نير حالة طوارئ قاسية وممتدة منذ 2013 بدعوى مكافحة تمدد تنظيم "داعش" في سيناء. وقدّم النظام دماء مئات المجندين والضباط في سبيل ما روج له دائماً باعتباره "جهوداً مستمرة لمكافحة الإرهاب" وأنفق مليارات الجنيهات من دون حلول تذكر. إلا أن ما ساهم في تعميق جراح أهالي شمالي شرق سيناء، هو إجلاؤهم عن منازلهم وقراهم وتجريف أراضيهم، إلى درجة أنها لم تعد صالحة لممارسة الأنشطة الزراعية والتجارية والتعدينية المعتادة، فضلاً عن تحكم الجيش فيها بالكامل، إلى جانب تصعيد الضغط عليهم بسوء حالة المرافق والاتصالات، لتضطر آلاف الأسر إلى النزوح لمدن القناة أو جنوب سيناء أو حتى لصعيد مصر لدى أقاربهم.
لم يقدّم النظام المصري لأهالي سيناء بدائل تذكر، على الرغم من الدعاية الإعلامية المستمرة عن تعويضهم وإسكانهم في مجمّعات جديدة، والحقيقة على الأرض أنه لم يتم الشروع في العمل فيها. أما مشروع المنطقة الاقتصادية لقناة السويس الذي ذكرته خطة ترامب بشكل محدد، فقد واجه العديد من العراقيل التي وضعت في طريق المستثمرين الذين كانوا يخططون للاستفادة منه بحلول عام 2018، لكن الجيش والمخابرات لم يوافقا على إطلاق يد المستثمرين في الغالبية العظمى من أقسامه حتى اللحظة، وهو ما يدعم بشدة احتمالات توقف دعمه واستغلاله للمضي قدماً في تنفيذ "صفقة القرن".
ويعكس هذا تغييراً استراتيجياً في رؤية الأميركيين والإسرائيليين لمسألة التوطين، إذ لم يعد المستهدف هو ضمّ مساحات من شمالي شرق سيناء في رفح المصرية والشيخ زويد ومناطق شرق مدينة العريش إلى قطاع غزة، أو ما كان يصطلح على تسميته بأنه "توسيع لقطاع غزة". وهو مشروع كانت قد نشرت صحيفة "إسرائيل هيوم" العبرية عام 2018 تفاصيله، مُدّعية أنه يتم تداوله بين موظفي وزارة الخارجية الإسرائيلية، وكان يشمل تبادل أراض، فتتنازل مصر عن مساحة 720 كيلومتراً مربعاً وتحصل على أخرى بمساحة مماثلة في صحراء النقب. وذكرت الصحيفة آنذاك أن مصر "ستؤجر" لفلسطين الجديدة أراضٍ في سيناء لإقامة مطار، ومصانع، ولأغراض التجارة والزراعة من دون مناطق للسكن، فضلاً عن إقامة خط لنقل المياه المحلاة تحت الأرض من غزة إلى الضفة الغربية.
وفي فبراير/ شباط 2018، ادعى الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن الرئيس المصري الراحل محمد مرسي عرض عليه صفقة مشابهة وأنه رفضها، في الوقت الذي كان فيه مرسي غير قادر على تفنيد ذلك الادعاء بسبب وجوده في السجن.
في هذا السياق، سبق أن كشف الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة "حماس" خالد مشعل، عن مقترحات غربية أُرسلت لمرسي بأن يضم غزة إلى مصر وتحل كل مشاكلها، شرط تحمله مسؤولية أي صاروخ ينطلق من القطاع، فرفض مرسي ورفضت حماس وانتهى الأمر.
ويؤدي تطبيق البنود التحفيزية الخاصة بدعم مناطق صناعية واستثمارية في سيناء وقناة السويس وتشغيل الفلسطينيين فيها، إلى تصور مقاربة جديدة للحلم الإسرائيلي بتصفية ما يدعونها "عقدة غزة". فتسهيل دخول وتشغيل وإسكان آلاف الشباب الفلسطيني من الأجيال الجديدة في مصر، سواء شرق قناة السويس أو غربها، سيؤدي إلى عملية نزوح هادئة، وسيكون من السهل الترويج لها باعتبارها دعماً للاجئين الفلسطينيين وتحسيناً لحياتهم، ومن ثم انخراطهم في المجتمع المصري، كما حدث مع عشرات الآلاف منهم في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وذلك دون حاجة لاستقطاع أو استبدال الأراضي.
ويدعم هذا التصور ما تتضمنه الصفقة أيضاً من حصول مصر على 9.167 مليارات دولار، منها نصف مليار دولار لدعم المشاريع السياحية في جنوب سيناء على ساحل البحر الأحمر، وذلك بإجمالي 2 مليار دولار تُخصص بالكامل للنهوض بالأوضاع المعيشية في سيناء، وإنهاء حالة الفوضى والفقر والمعاناة التي تعاني منها المدن الكبرى والقرى، وتفاقمت بسبب المواجهة المسلحة منذ 2012 بين الجيش والمجموعات الإرهابية في شمالي شرق شبه الجزيرة المصرية، على أن تستفيد الحكومة المصرية من هذه المخصصات خلال 8 سنوات. كما سيتم تخصيص مليار و500 مليون دولار لدعم الجهود المصرية المشتركة مع الإسرائيليين لإنشاء مركز إقليمي كبير للغاز الطبيعي في مصر، وتوظيف الإنتاج الكبير من الحقول المصرية وتحسين جودة شبكات نقل الغاز والغاز المسال، وذلك على مدار 5 سنوات.
وسيتم تخصيص 5 مليارات دولار لدعم البنية التحتية للدولة المصرية بصفة عامة، نصفها في صورة قروض، وسيتم إنفاقها على مدار سنوات الخطة، مع الأخذ في الاعتبار أن أكثر من 50 في المائة من هذه المبالغ سيكون على هيئة قروض. وسبق أن رجحت المصادر الدبلوماسية المصرية أن يتم تمويل تلك القروض من دول الخليج العربي، خصوصاً السعودية والإمارات، أما حجم المنح فيبلغ فقط نحو 10 في المائة، بينما النسبة الباقية ستكون من مساهمات القطاع الخاص، الخليجي والأميركي والمحلي والإسرائيلي.