28 يناير 2024
حنظلة ناجياً
ما يزال المطلوب رقم 1 على قوائم أجهزة الأمن العربية، هو حنظلة، على الرغم من مرور 29 عاماً على اغتيال أبيه. وفي وسع أي متورط بمراجعة مخافر الشرطة أن يرى صورته معلقةً على الحيطان بمواصفاته المعروفة (الطول: قامة من الوجع، الوزن: قبضة من الغضب، الشعر: شوكة في خاصرة الاستبداد، اللون: حنطة الفقراء).
كم من حملةٍ جرّدتها الأنظمة العربية، للظفر بحنظلة، لكنه ظل طليقاً، يظهر ويختفي كيف شاء له شغبه أن يفعل، لأنه "استثناء" كما وصفه أبوه، لا يرتدي طاقية الإخفاء، بدليل أنه ما يزال يدوّن توقيعاته على كل حدث عربي، يثير غضبه أو احتجاجه، أمام أعين العسس وحملة الهراوات، ليجعل الحدث انتصاراً للمهزوم، وانتقاماً للضحية من جلادها، خصوصاً حين يجد الجلاد نفسه عارياً أمام أشواك حنظلة التي تخترقه من كل اتجاه. ولربما يصلح تمثيل حنظلة بـ"أرسين لوبين العرب". لكن، بمواصفاتٍ مختلفة، إذ لا يمنع حنظلة الجريمة، لكنه يجعلها عاراً أبدياً يلاحق الجلاد في كل سكناته وحركاته، فيُفقده لذة الجلد والقمع، ويعلي من شأن الضحية، ليجعل من جرحها لعنةً تطارد الطاغية والمحايد والشاهد الصامت.
نجح ناجي العلي بإنجاب طفله "الاستثناء"، لأنه، وعلى خلاف الطيبين الآخرين، لم يشأ أن يموت طيباً فحسب، بل آثر أن يترك خلفه شوكةً تقضّ مضاجع القتلة، وكأنه يودّ أن يبعث رسالة مفادها، أن الخير لا يمكن أن ينتصر من دون سلاحٍ وقبضة، وأن العدل يحتاج إلى أنياب، وأن للعين مخرزها الذي تقاوم به أصابع القاتل.
وفي المقابل، لم تنجح مخالب الجلاد وسياطه وهراواته كلها بسحق حنظلة، ليس لأنه أزيد قوةً، بل لأنه أشدّ حلماً، وأبلغ حريةً، ولأنه أول رسم يحفره المعتقل على جدار زنزانته، ليتذكّر الحرية، ولأنه الملصق الذي يزيّن زجاج السيارات في الشوارع العربية، ولأنه واسطة العقد الذي تزدان به الصبايا، ولأنه آخر دمعةٍ ستذرفها "فاطمة" قبل اندلاع الثورة المقبلة.
في كل عام، هناك في لندن، تغلف قبر ناجي العلي مسحةٌ من ضباب، تشبه بياض شعره الذي غادر به الدنيا العربية الرخيصة. وعلى حافة الضريح، يجلس حنظلة، بكامل استدارته، وبينهما يدور حوارٌ صامتٌ لا يفهمه غير أبٍ أورث ابنه تركة عربية ثقيلة، من الثورة على الظلم، وابن يقدّم لأبيه جردة حسابٍ بأسماء الضحايا، ويسأله عن أسماء جلادين وقتلة ومفسدين جدد انضموا إلى القائمة السوداء التي يتناسل أعضاؤها أضعافاً كل عام، ليتهيأ لمعاركه المقبلة.
وهناك، قد يشعر الابن ببعض التعب، ويخالجه شيءٌ من اليأس، وهو يتسلّم القائمة الجديدة من أبيه، فيحاول التسلل إلى القبر، لكنه سرعان ما يتراجع عن قراره، حين يرى تلك الحدّة في نظرات ناجي العلي التي يعرفها جيداً، كلما غضب، فينكّس رأسه مجدّداً، ويعقد يديه خلف ظهره ويستدير، مغادراً القبر إلى حيث عواصم أخرى، يغلّفها ضبابٌ من رماد الثورات المجهضة، والأحلام المنزوعة من أطفال المخيمات.
وسيتعيّن على حنظلة، كل عام، أن يخوض حروب أبيه، مع ديناصورات الثورة الذين يقاومون الانقراض بدماء شعبهم، ومصير وطنهم، وليكون موجوداً، أيضاً، في محيطه القومي، ليعيد الوهج إلى عروق الجسد العربي الممزّق في أتون حروبٍ مدروسة العبث، لإجهاض أي أمل له بالتحرّر واستعادة الروح.
وعلى حنظلة، بين هذا وذاك، أن يظلّ "ناجياً" بحلم أبيه "العليّ"، من حملات التفتيش، ومن هراوات الشرطة، وعيون المخبرين، كي تظل شعلة المقاومة مستعرةً في نفوس كل من يحملونه أيقونةً صلبةً في وجه الطغيان.
كم من حملةٍ جرّدتها الأنظمة العربية، للظفر بحنظلة، لكنه ظل طليقاً، يظهر ويختفي كيف شاء له شغبه أن يفعل، لأنه "استثناء" كما وصفه أبوه، لا يرتدي طاقية الإخفاء، بدليل أنه ما يزال يدوّن توقيعاته على كل حدث عربي، يثير غضبه أو احتجاجه، أمام أعين العسس وحملة الهراوات، ليجعل الحدث انتصاراً للمهزوم، وانتقاماً للضحية من جلادها، خصوصاً حين يجد الجلاد نفسه عارياً أمام أشواك حنظلة التي تخترقه من كل اتجاه. ولربما يصلح تمثيل حنظلة بـ"أرسين لوبين العرب". لكن، بمواصفاتٍ مختلفة، إذ لا يمنع حنظلة الجريمة، لكنه يجعلها عاراً أبدياً يلاحق الجلاد في كل سكناته وحركاته، فيُفقده لذة الجلد والقمع، ويعلي من شأن الضحية، ليجعل من جرحها لعنةً تطارد الطاغية والمحايد والشاهد الصامت.
نجح ناجي العلي بإنجاب طفله "الاستثناء"، لأنه، وعلى خلاف الطيبين الآخرين، لم يشأ أن يموت طيباً فحسب، بل آثر أن يترك خلفه شوكةً تقضّ مضاجع القتلة، وكأنه يودّ أن يبعث رسالة مفادها، أن الخير لا يمكن أن ينتصر من دون سلاحٍ وقبضة، وأن العدل يحتاج إلى أنياب، وأن للعين مخرزها الذي تقاوم به أصابع القاتل.
وفي المقابل، لم تنجح مخالب الجلاد وسياطه وهراواته كلها بسحق حنظلة، ليس لأنه أزيد قوةً، بل لأنه أشدّ حلماً، وأبلغ حريةً، ولأنه أول رسم يحفره المعتقل على جدار زنزانته، ليتذكّر الحرية، ولأنه الملصق الذي يزيّن زجاج السيارات في الشوارع العربية، ولأنه واسطة العقد الذي تزدان به الصبايا، ولأنه آخر دمعةٍ ستذرفها "فاطمة" قبل اندلاع الثورة المقبلة.
في كل عام، هناك في لندن، تغلف قبر ناجي العلي مسحةٌ من ضباب، تشبه بياض شعره الذي غادر به الدنيا العربية الرخيصة. وعلى حافة الضريح، يجلس حنظلة، بكامل استدارته، وبينهما يدور حوارٌ صامتٌ لا يفهمه غير أبٍ أورث ابنه تركة عربية ثقيلة، من الثورة على الظلم، وابن يقدّم لأبيه جردة حسابٍ بأسماء الضحايا، ويسأله عن أسماء جلادين وقتلة ومفسدين جدد انضموا إلى القائمة السوداء التي يتناسل أعضاؤها أضعافاً كل عام، ليتهيأ لمعاركه المقبلة.
وهناك، قد يشعر الابن ببعض التعب، ويخالجه شيءٌ من اليأس، وهو يتسلّم القائمة الجديدة من أبيه، فيحاول التسلل إلى القبر، لكنه سرعان ما يتراجع عن قراره، حين يرى تلك الحدّة في نظرات ناجي العلي التي يعرفها جيداً، كلما غضب، فينكّس رأسه مجدّداً، ويعقد يديه خلف ظهره ويستدير، مغادراً القبر إلى حيث عواصم أخرى، يغلّفها ضبابٌ من رماد الثورات المجهضة، والأحلام المنزوعة من أطفال المخيمات.
وسيتعيّن على حنظلة، كل عام، أن يخوض حروب أبيه، مع ديناصورات الثورة الذين يقاومون الانقراض بدماء شعبهم، ومصير وطنهم، وليكون موجوداً، أيضاً، في محيطه القومي، ليعيد الوهج إلى عروق الجسد العربي الممزّق في أتون حروبٍ مدروسة العبث، لإجهاض أي أمل له بالتحرّر واستعادة الروح.
وعلى حنظلة، بين هذا وذاك، أن يظلّ "ناجياً" بحلم أبيه "العليّ"، من حملات التفتيش، ومن هراوات الشرطة، وعيون المخبرين، كي تظل شعلة المقاومة مستعرةً في نفوس كل من يحملونه أيقونةً صلبةً في وجه الطغيان.