قبل 3 أعوام، أنجز الصربي أوغنين غلافونيتش (1985) فيلمًا وثائقيًا رائعًا ومُقبِضًا، بعنوان "عمقان" (2016)، فضح فيه وقائع ما اكتُشِف عام 2001 على أطراف بلغراد. ففي حفرتين عميقتين، هائلتي الاتّساع، عُثِرَ على آلاف الهياكل البشرية، العائدة إلى ضحايا قصف قوات الـ"ناتو" ليوغوسلافيا السابقة، في حرب 1999. في روائيّه الطويل الأخير "الحمولة" (2018)، عاد إلى الواقعة نفسها لترسيخها في الأذهان، بإكسابها نَفَسًا دراميًا قويًّا يصعب نسيانه.
في جمهورية يوغوسلافيا تلك، تمتّع إقليم كوسوفو بحكم شبه ذاتيّ. غالبية سكّانه ألبان، واللغة الألبانية سائدة. تغوَّل الصرب في سلطاتهم، وزادوا من بطشهم وطمسهم هوية الإقليم. حاول الألبان المقاومة سلميًا، لكن من دون جدوى، فشكّلوا مُقاومة مسلحة، عُرِفت بـ"جيش تحرير كوسوفو". اندلعت الحرب بين الطرفين، وفشل وقف إطلاق النار أكثر من مرة. اضطرّت الأمم المتحدة، ثم قوات الـ"ناتو"، إلى التدخّل للفصل بينهما. لاحقًا، تعرّضت كوسوفو لقصفٍ شديد، قبل حصول الإقليم على استقلاله، فبات دولة اعترفت بها بلاد عديدة.
معرفة أو جهل المُشاهِد بهذه الخلفية لا يحولان دون تلقّي "الحمولة"، واستيعابه والتفاعل معه. بل على العكس، إذْ اكتَسَبت الدراما غموضًا كثيرًا، وأُضفيت إثارة بالغة، ربما لا تنتهي مع انتهاء الفيلم، فغلافونيتش تعمّد عدم الإشارة إطلاقًا إلى ماهية أحداث فيلمه (98 دقيقة). كما يمكن تحميل الاستعارة بأكثر من معناها المباشر.
هذه كلّها نقاط قوّة واضحة. إن لم يُشاهَد الفيلم بحسب الخلفية التاريخية للحرب، يمكن عندها تأويل الأحداث وخيوط الحبكة كما يريد المُشاهِد، الذي يخرج بها إلى أحكام عامة، أخلاقية وفلسفية. العنوان نفسه يحيل إلى هذا، فـ"الحمولة" تعني ما هو موجود في الشاحنة، ووفقًا للعنوان الأصلي، فهو يعني العبء أو الثقل.
الكآبة والانقباض والقتامة سمات طاغية على الفيلم وشخصياته، خصوصًا الشخصية الرئيسية. تلال جرداء، وطبيعة قاسية، وندرة بشر، وسماء رمادية طول الوقت. هناك نجاح ملحوظ لغلافونيتش في الإيحاء بأجواء الحرب، رغم عدم رصد حدثٍ واحد يحيل إليها مُباشرة. هناك فقط إشارات إلى أن طريقًا قُصِفت، وأن دويَّ انفجارٍ سُمع، بالإضافة إلى ظهور دخان في عمق الـ"كادر". رغم ذلك، يُخيِّم ثقل الحرب بشدّة، هي الممتدّة 15 شهرًا، مُخلِّفةً آلاف القتلى والجرحى، ومُشرّدة نحو مليون شخص من الجانبين. آثار هذا ملموسة في "الحمولة" من دون تكلّف. ولتعميقها، نسج غلافونتيش فيلمه بذكاء، جاعلاً إياه رحلة طريق. فمن كوسوفو إلى بلغراد، يقطع فلادا (ليون لوتشيف) المسافة في شتاءٍ قارس، داخل شاحنته. ولوتشيف، أحد أبرز ممثلي سينما أوروبا الشرقية، برع في تأدية الدور.
لم تغب الكاميرا عن وجه فلادا، فالأحداث كلّها مُتمحورة حوله. تعبيرات وجهه، التي يصعب التكهن بها، سببٌ في إضفاء مزيدٍ من الغموض. كما يصعب تخمين سبب ذلك العبوس الجاثم على الوجه: أهذه طبيعته، أم أنها متاعب المهنة، فهو سائق شاحنة، يقودها ساعاتٍ طويلة من دون استراحة أو نوم؟ أيُعاني فلادا مشاكل حياتية وعقبات اقتصادية وهموما أسرية يُفكّر فيها، إلى درجة تنسيه الشاحنة، أو تجعله غير مكترث بما تحمله، أو بتلك الرائحة التي تفوح من صندوقها؟ هو غير مُكترث، لا ينتابه فضول لمعرفة ماهية أصوات صندوق الشاحنة. مع ذلك، لا تضخيم للأمر، ولا مبالغة فيه. هناك فقط إبرازٌ لمدى التزام فلادا بالتعليمات، فهو يريد السلامة، ولا يرغب في التوّرط في ما لا تُحمد عقباه.
رغم أن السيناريو لا يضعه في مواقف كثيرة ومتنوّعة، إلا أن أبعاد شخصية فلادا وأعماقها تُسهِّل اكتشافها: ربّ أسرة زمن حربٍ وبطالة. يعاني قلّة موارد. ليس سيئًا، بل رجل يبحث عن عملٍ بأي ثمن، ومهما كانت العقبات. في عمله الجديد والمُتقطّع، لا عقبات، باستثناء تحذير صارم منذ البداية بعدم فتح صندوق الشاحنة. عند مروره على نقاط تفتيش، هناك تصريح أو رسالة، ما إنْ يُظهرها حتى يُسمح له بالمرور، من دون تفتيش. فلادا مُطيع للأوامر. همّه توصيل الحمولة فقط. لا يحبّ الاستطلاع، رغم سؤال يطرحه كثيرون عليه بخصوص ما يحمله، أو سبب تلك الرائحة.
الأمر مُثير للدهشة. لكن كلّ ما يخشاه ويشغل باله، يكمن في عدم تكليفه بنقل حمولة أخرى، وعدم حصوله على بقية أمواله عند تسليم الشاحنة إلى الطرف الآخر. عندها، يُفهم سبب سلوكه الغريب.
خلال تلك الرحلة، التقى فلادا أشخاصًا كثيرين. لكن طبيعته المنغلقة تدفعه إلى تجاوزهم، أو ربما بسبب التعليمات، التي تفرض عليه عدم لفت الانتباه. بعد توقّف قصير بسبب حادث، واضطراره إلى تغيير مساره، يتورّط مع المُراهق بايا (بافلي تشيميريكتش)، الذي طلب منه مرافقته في مقابل إرشاده على الطريق إلى بلغراد. يبلغ بايا العمر نفسه تقريبًا لابن فلادا، الذي يظهر في الثلث الأخير من "الحمولة". يسمع الموسيقى، كما أنشأ فرقة موسيقية. يُقدّم له هدية، هي عبارة عن شريط كاسيت سجَّل عليه موسيقاه. يُحدِّثه عن طموحه المُستقبلي في عالم الموسيقى، ويُخبره أنه في طريقه إلى ألمانيا. لاحقًا، يعطي فلادا لابنه الشريط، لحظة تصالح بينهما، تبدو نادرة، فالابن متمرّد وغاضب.
هاتان شخصيتان (بايا وابن فلادا) تُشيران إلى أن الجيل الجديد، بخلاف جيل الأب، غير مكترث نهائيًا بالحرب، رغم الدمار والصعوبات. جيل يعيش حياته كما يريد، وسيظلّ يعيشها هكذا، وإنْ أورثه جيل فلادا حِملاً كتلك الحمولة.