واستخدمت وزارة الداخلية في روايتها للأحداث طريقة قديمة وتتبعها كثيراً، بتركيز الضوء على مجموعة من المتهمين وانتزاعهم من سياقهم السياسي والحركي الواقعي، والربط بينهم وبين قيادات "الإخوان" في الخارج، والإعلاميين المعارضين للنظام في تركيا وغيرها، فضلاً عن اختراع روابط بين ما يحدث خارج مصر وداخلها، وتصوير الأمر على أنه "مخطط شيطاني لاستهداف الدولة"، وفق التعبيرات المدونة في بيان "الحرب" الذي استيقظ عليه المصريون أمس لتبرير حملة الاعتقالات.
وزعمت وزارة الداخلية في بيانها أنّ المقبوض عليهم "أنشأوا مسارات للتدفقات المالية الواردة من الخارج بطرق غير شرعية بالتعاون بين الجماعة الإرهابية والعناصر الإثارية الهاربة ببعض الدول المعادية، للعمل على تمويل التحركات المناهضة بالبلاد، للقيام بأعمال عنف وشغب ضد مؤسسات الدولة في توقيتات متزامنة، مع إحداث حالة زخم ثوري لدى المواطنين، وتكثيف الدعوات الإعلامية التحريضية عبر وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية التي تبث من الخارج". كما حددت وزارة الداخلية "أبرز العناصر الإرهابية خارج البلاد والقائمة على تنفيذ المخطط، وهم كل من القياديين الإخوانيين محمود حسين وعلي بطيخ، والإعلاميين الإثاريين معتز مطر ومحمد ناصر، والمحكوم عليه الهارب أيمن نور".
وربما كانت رواية وزارة الداخلية قابلة للتصديق إذا كانت "الأذرع المحلية" لتنفيذ هذه "الخطة الإخوانية" من النشطاء الإسلاميين أو المتهمين بتمويل الجماعة، لكن لأن معظم هؤلاء يمكثون في سجون السيسي أو اختاروا الخروج من مصر منذ سنوات، فكان على الشرطة أن تحاول إقناع الرأي العام بأن النشطاء اليساريين والليبراليين المقبوض عليهم هم أنفسهم أدوات في أيدي "الإخوان" ومتحالفون معهم.
وتناست الداخلية، عن قصد وبهدف تغيير حقائق التاريخ، أن حسام مؤنس باعتباره المتحدث باسم التيار الشعبي وحملة المرشح الرئاسي الأسبق حمدين صباحي، كان من أشهر الوجوه الإعلامية المناهضة بلا هوادة لحكم الرئيس المنتخب الراحل محمد مرسي، ومن أبرز المنظمين لتظاهرات 30 يونيو/ حزيران 2013 الممهدة لانقلاب 3 يوليو/ تموز. كما أغفلت أنه لم يبتعد عن مساندة النظام الحالي، إلا عند معارضته للتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير. والأمر ذاته بالنسبة للصحافي هشام فؤاد المعروف بانتمائه اليساري وهجومه على الإسلاميين دائماً.
أما العليمي، الذي كان عضواً في أول مجلس شعب منتخب بعد ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، فمعروف أنه كان وكيل مؤسسي "الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي"، ولا ينسى المتابعون المصادمات الدائمة بينه وبين رئيس مجلس الشعب المنحل سعد الكتاتني والأغلبية الإسلامية في البرلمان، ما انعكس لاحقاً على خياراته السياسية في الدعوة لتظاهرات 30 يونيو. إذ كان من أوائل المتحدثين عن ضرورة إسقاط مرسي، ولم يسبق له أن اتّحد سياسياً مع الإخوان بأي صورة.
أما الشنيطي، فهو خبير اقتصادي بارز ولا يرتبط بالإخوان تنظيمياً ولا سياسياً، وسبق أن عارض سياساتهم الاقتصادية في ظلّ حكم مرسي، ولم يتم القبض عليه أو التحقيق معه حتى بعد إصدار قرار يستند للتحريات الأمنية فقط، بالتحفظ على أمواله ومكتبته التي كانت وما زالت لا تروج للفكر الإسلامي من قريب أو بعيد. وأثار استهداف الشنيطي استغراب المتابعين، خصوصاً أنه لم يسبق له أن ارتبط سياسياً بأي تيار وكان يحافظ على وسطيته واعتداله حتى في تعليقاته الاقتصادية عبر صفحته الشخصية على موقع "فيسبوك".
ونظراً إلى هذه المعطيات بشأن الشخصيات الجديدة المستهدفة، فإنّ تمحور القضية الوهمية بحسب السيناريو المقدّم من الداخلية، حول هذه الأسماء تحديداً، يفتقر إلى المنطق، وبدا أقرب إلى تحرّك انتقامي من النظام ضدّ معارضين يجاهرون بالنقد على صفحات التواصل الاجتماعي، لا سيما أنّ مؤنس وفؤاد شاركا منذ أيام في تدشين حملة إلكترونية لمعارضة مشاركة مصر في ورشة المنامة لبحث الشق الاقتصادي من خطة الإملاءات الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية المعروفة إعلامياً باسم "صفقة القرن"، وشاركتهما في ذلك شخصيات ناصرية بارزة، مثل حمدين صباحي. كما أنّ الشنيطي يعتبر ذا صوت مؤثّر على مواقع التواصل، وكانت له أخيراً تدوينات تنتقد السياسات الاقتصادية، وتطرح تساؤلات عن حقيقة أسباب هبوط سعر الدولار في البنوك المصرية.
لكنّ الناشط السياسي والحقوقي بهي الدين حسن، المقيم خارج مصر، قطع الشكّ باليقين عندما أعلن عبر حسابه على موقع "تويتر"، أنّ القبض على العليمي ومؤنس تحديداً، يهدف إلى تصفية مشروع يسمى "تحالف الأمل" بين الحركة المدنية الديمقراطية وتحالف "25-30" البرلماني وحزب "المحافظين" وعدد من الشخصيات العامة الليبرالية واليسارية، والذي كان مقرراً الإعلان عنه خلال أيام. وأشار حسن إلى أنّ الأمن الوطني الذي زعم أخيراً اتصال العليمي ومؤنس بـ"الإخوان"، كان على علم بهذا التحرك، واستدعى عدداً من القيادات في التحالف وحذرهم من مواصلة العمل والاجتماع، على الرغم من أن الهدف الرئيس للتحالف هو الإعداد للانتخابات البرلمانية المقبلة عام 2020. وقبل أن ينشر حسن تغريداته، والذي قال في عام 2014 إنه تلقى تهديدات بالقتل، تواصلت "العربي الجديد" مع عدد من النشطاء اليساريين والناصريين الذين ذكروا معلومات مقاربة لما نشره، وتدور في الإطار نفسه، المتمثل في أنّ النظام يعمد إلى تصفية هذا التجمع السياسي الجديد بشكل استباقي.
تحالف الأمل
وقالت المصادر إنّ فكرة تحالف الأمل ولدت من التواصل بين عدد من نشطاء كل من أحزاب المصري الديمقراطي الاجتماعي، والتحالف الشعبي الاشتراكي، والعيش والحرية، وعدد من الشخصيات الناصرية المعروفة، على رأسهم النائب أحمد الطنطاوي الذي يعتبر الآن أبرز معارض تحت قبة البرلمان. بالإضافة إلى بعض أعضاء مجموعة حمدين صباحي دون حضوره شخصياً، والنائب هيثم الحريري، ثمّ في مرحلة لاحقة تمّ طرح ضم النائب أكمل قرطام الذي عارض التعديلات الدستورية، وتم حجب الموقع الإخباري الذي يملكه "التحرير"، ودفعه لإعلان غلقه أخيراً، بحيث يمثّل قرطام الدعم المالي الأساسي لهذا التحالف.
ووفقاً للمصادر، فإنّ التحالف كان يعدّ لخوض انتخابات مجلس النواب المقبلة بشخصيات عدة، منها العليمي، وأنّ هذا الأمر تحديداً أغضب الأمن الوطني، باعتبار العليمي شخصية غير مرغوب في التعامل معها بالنظر لماضيه كعضو في "ائتلاف شباب الثورة"، والواقعة الشهيرة لسبه المشير حسين طنطاوي، رئيس المجلس العسكري الحاكم سابقاً.
وذكرت المصادر أنه كان هناك اتفاق بين أعضاء التحالف على ضمّ شخصيات معروفة في مجالات التنظيم السياسي والاقتصاد والرياضة والإعلام بخلفيات علمانية ــ مدنية، شرط عدم ضمّ أي شخصية يمكن احتسابها مؤيدة لجماعة "الإخوان"، وأن يتم العمل من داخل الإطار الدستوري والقانوني الحالي، حرصاً على حرية وحياة الشخصيات المساهمة والشباب العاملين معهم، أخذاً في الاعتبار تجربة القبض على شباب حملة خالد علي لرئاسة الجمهورية، ورغبة المساهمين في عدم تكرارها. ويعكس حديث المصادر رغبة القائمين على التحالف في طمأنة الدولة وعدم إثارة ذعرها من هذا التحرك، وصلت إلى حدّ تواصلهم مع عدد من الشخصيات المعروفة بعلاقتها الوطيدة بالأجهزة الأمنية، على سبيل الطمأنة ومحاولة تأمين التحركات المقبلة، مع الحرص على السرية في هذه المرحلة.
خلافات ومحاولة للتعتيم
ووفقاً للمصادر، فإنّ الأمن الوطني تواصل أكثر من مرة في الأسبوعين الماضيين مع شخصيات كوسطاء مع قيادات التحالف، وتمّ توجيههم إلى ضرورة عدم التواصل مع شخصيات عسكرية سابقة أو حالية، وعدم التواصل مع نائب رئيس الجمهورية السابق محمد البرادعي، ورئيس حزب "غد الثورة" أيمن نور، وكان هناك خلاف حول مدى إمكانية إقامة مؤتمر صحافي لإعلان تفاصيل التحالف في الذكرى السادسة لتظاهرات 30 يونيو، أو الاكتفاء بالإعلان من خلال مواقع التواصل الاجتماعي.
واعتبرت المصادر أنّ ضمّ شخصيات للقضية، مثل المحاسب حسن محمد بربري، والقيادي بحزب الاستقلال المعارض الدكتور أسامة العقباوي، اللذين تمّ اعتقالهما أيضاً، يأتي كمحاولة للتشتيت، وافتعال وجود صلات غير منطقية بين الشخصيات المساهمة في التحالف، كالعليمي ومؤنس والشنيطي، وبين شخصيات أخرى لخدمة الرواية الأمنية غير المنطقية.
وفي هذا السياق، قال مصدر أمني لـ"العربي الجديد"، إنّ حسن بربري كان أول المقبوض عليهم في هذه القضية، وهو شخص لا ينتمي لأي تيار سياسي ومعروف في الأوساط الحقوقية كمحاسب بارز وذي خبرة لإنهاء أعمال المنظمات مع الدولة والجهات المانحة، مشيراً إلى أنّ القبض عليه جاء رداً على تقارير سلبية عن مصر أعدتها منظمات دولية كان يعمل معها حتى وقت قريب.
أمّا العقباوي، فقد تمّ القبض عليه باتباع أسلوب الرهينة القديم، إذ تمّ القبض على ابنته مودة (18 عاماً)، لحين حضوره وتسليم نفسه لأقرب مقر للأمن الوطني. ورجح المصدر الأمني أن يكون القبض عليه بهدف التعتيم على السبب الرئيسي لهذه الحملة، نظراً لانتمائه الإسلامي المعروف وقربه فكرياً من جماعة "الإخوان".
وكشف المصدر الأمني أنّ القائمة الكاملة للكيانات الاقتصادية التي تحدّث بيان الداخلية عن تورطها في تأمين مسارات التمويل من قيادات "الإخوان" بالخارج لما وصفه البيان "خلية الأمل" - التي لم تأخذ من التحالف السياسي المجهض إلا اسمه - تتضمّن العديد من المفارقات، أبرزها أن 12 كياناً من 19 كياناً تحدّث عنها البيان "متحفظ عليها، وليست تحت إدارة أصحابها منذ 2015".
رسائل قمعية واضحة
لا يعبّر هذا التحرّك التصعيدي ضدّ المعارضة العلمانية لنظام السيسي، إلا عن مضي الأخير قدماً في منع أي حراك سياسي، وضيقه بأي فكر معارض لتوجهاته حتى ولو كان هدفه عدم خرق القواعد. كما يأتي التحرّك امتداداً للقضية التي افتعلها النظام العام الماضي للسفير معصوم مرزوق والأكاديمي يحيى القزاز وآخرين من النشطاء الناصريين. ومفاد الرسالة الأهم أنّ النظام لن يتورّع عن تعليق أي معارض على شماعة الانتماء لـ"الإخوان"، بغضّ النظر عن تاريخه السياسي والفكري، في إصرار رسمي على تحدي الحقائق التاريخية وتدليس الوقائع. وهو في ذلك يعتمد على تحكم الاستخبارات الكامل في وسائل الإعلام المحلية، وضمان عدم نشرها أكثر من الرواية الرسمية المنافية للمنطق.
ويتكامل هذا التصعيد الذي يأتي بعد أيام معدودة من وفاة الرئيس الراحل محمد مرسي أثناء محاكمته، مع تدابير أخرى اتخذها النظام ضدّ الإعلام والمجال العام لإحكام السيطرة ومنع الأصوات المعارضة من التعبير عن أفكارها، منذ نجاح النظام في تمرير التعديلات الدستورية في إبريل/ نيسان الماضي، وصولاً إلى وفاة مرسي، إذ تمّ تشديد التدابير لمنع حدوث أي أزمات أو قلاقل.
وعلى الخط نفسه في الماضي القريب، تصادفنا محطات كلها ساهمت في التمهيد للمشهد الحالي؛ من فرض رقابة على المطبوعات والصحف وعدم الإذن بالطباعة إلا بعد موافقة الاستخبارات العامة بالنسبة لجميع الصحف التي تطبع في مطابع الدولة، وتوحيد إدارة معظم القنوات والمواقع والصحف تحت إدارة الاستخبارات "إعلام المصريين". وكذلك منع شركات الإنتاج الفني من منافسة الشركة المملوكة للاستخبارات "سينرجي" في موسم شهر رمضان والعيد، ومنع عشرات الكتاب من نشر مقالاتهم، كان آخرهم عبد الله السناوي الذي كان ذات يوم من أقرب الصحافيين للسيسي، ثمّ انتهاج سياسة حجب المواقع الإلكترونية أو إعاقة الوصول إليها، وهو ما استخدم مرات عدة خلال المائة يوم الماضية مع مواقع التحرير، ومصراوي، والفجر، والمصري اليوم، والشروق، وفيتو، غير المملوكة للاستخبارات، مع استمرار حجب مواقع أخرى دون إعلان المبررات، وصولاً إلى تفعيل رقابة المجلس الأعلى للإعلام على الصفحات الشخصية للكتاب الصحافيين ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي وتغريمهم بقرارات إدارية حال توجيه الانتقادات للقرارات والتصرفات الحكومية.
وفي سياق محاولة النظام لتحجيم المساحات التي يمكن أن يستغلها المعارضون أو غير الموالين للتعبير عن أفكارهم، تشهد الفترة الحالية تصعيداً للضغوط على رجل الأعمال صلاح دياب، المالك الرئيسي لصحيفة "المصري اليوم"، لبيع أسهمه في الصحيفة بالكامل لشخصيات تابعة للاستخبارات أيضاً، وذلك بعد تهديده بالتحفظ على أمواله في قضية جديدة ما زالت قيد التحقيق. ويأتي ذلك في محاولة جديدة لزعزعة موقف دياب الذي كان قد أكّد سلفاً لوسطاء عديدين استحالة تخليه عن "المصري اليوم"، واصفاً الصحيفة بأنها "مشروع عمره في مجال الإعلام، وأنه يعد نجله لإدارتها بشكل كامل من بعده، وليست لديه أي نية للتخلي عنها"، وأنه في المقابل أوضح للوسطاء التزامه بالحدود المتفق عليها مع الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التي باتت تراقب وسائل الإعلام المطبوعة بشكل رسمي.
ولا تتوقّف محاولات النظام الحالية لاستكمال السيطرة على المشهد الإعلامي عند الصحف الخارجة نسبياً عن ملكية الاستخبارات، حيث سبق وكشفت مصادر إعلامية عن تعرّض رجل الأعمال الموالي تماماً للسلطة محمد أبو العينين لضغوط لبيع قناة وموقع "صدى البلد" لمجموعة "إعلام المصريين" التابعة للاستخبارات، وهي خطوة تثير العديد من التساؤلات نظراً لتبعية أبو العينين للنظام، وإنفاقه عشرات الملايين للترويج له ولضمان نجاح أعماله الخاصة.