حماس في ذكرى انطلاقتها.. مراجعات مطلوبة
أدرك أن سماع قيادة حماس، مثل غيرها من القيادات الفلسطينية والعربية، كلمة "مراجعات" قد لا يكون له أثر إيجابي في نفوسهم، لأنها، بالضرورة، تضع يدها على خطأ وتجاوز، وهو أمر طبيعي في مسيرة أي حركة سياسية. لذلك، تتناول السطور التالية أهم المراجعات المطلوبة في هذه الذكرى السنوية لانطلاقة حماس:
1- مصير الميثاق بين التعديل والتجاوز: مثل أي حركة وطنية، يوجد لحماس ميثاقها التأسيسي الذي صدر في أغسطس/آب 1988، وهو جملة من المواقف العامة والمحددات السياسية والشعارات الوطنية، التي تناسب أي حركة لم تكمل عامها الأول. وربما آن الأوان لفتح هذا "الصندوق الأسود"، لبحث مدى ملاءمته للواقع الجديد، وإمكانية إجراء تعديل عليه، من حذف وإضافة، وربما تجاوزه إن لزم الأمر.
يبدو ميثاق حماس، اليوم، بعد أكثر من ربع قرن على كتابته ونشره، أشبه ما يكون بوثيقة أدبية أيديولوجية تعبوية، أكثر مما هو ميثاق سياسي، تقدم حماس نفسها بموجبه للعالم، الذي يحاكم القوى السياسية، بحسب ما يصدر عنها من مواقف مكتوبة خطية، أكثر من شعارات وتصريحات شفوية، من هذا القيادي أو ذاك.
فالميثاق في مواده الـ36 التي تناقش قضايا تجاوزها الزمن كثيراً، سواء على صعيد العلاقة مع القوى الوطنية الفلسطينية الداخلية، أو مستقبل المواجهة مع إسرائيل، سلماً أو حرباً أو تفاوضاً، أو شكل الروابط بين حماس اليوم مع حلفاء عرب وإقليميين، وربما دوليين، وحتى النقاش في طبيعة الحراك المجتمعي الفكري الحاصل بين الفلسطينيين منذ دخول الألفية الثالثة.
الإشارة مهمة إلى أن هذه القناعات ليست بالضرورة بنات أفكار كاتبها فقط، بقدر ما هي خلاصة نقاش حقيقي، وحراك متلاحق، يجري داخل حماس منذ سنوات، يبحث في مصير الميثاق. ولئن اتفقت أوساط نافذة في حماس، وأتكلم، تحديداً، عن قيادات الصف الأول في الداخل والخارج، على كثير مما ورد آنفاً عن الملاحظات النقدية للميثاق، لكنها تخشى الاقتراب من تعديله، أو حذف بعض فقراته، مخافة تكرار تجربة منظمة التحرير الفلسطينية حين أقدمت على تعديل الميثاق الوطني، أواخر تسعينيات القرن الماضي، من دون أن تحصل على مقابل مجز.
كما لا تجرؤ حماس، حتى كتابة هذه السطور، على الاقتراب من الميثاق "المقدس"، لاعتبارات لا تغيب عن الوسط السياسي والحزبي الفلسطيني، تتعلق بالخواطر الشخصية، وعدم رغبتها بإغضاب أحد من قادتها المؤسسين.
2- تحييد النقاش الديني عن الأداء السياسي: حماس حركة سياسية صرفة، لها مرجعية إسلامية، لا يؤاخذها عليها أحد، لكنها، نظراً لتوفر قيادات من الصفوف الأولى والثانية والثالثة من حملة الشهادات الشرعية والتخصصات الدينية، تجد نفسها، من دون أن تضطر لذلك، تعرض أي سلوك سياسي قامت، أو ستقوم، به على ما تسميها "المرجعيات الشرعية"، وهذا، لعمري، يقترب من صيغة الثيوقراطية الدينية، حتى لو نفتها حماس.
الأداء السياسي من سلم وحرب، تحالف وخصومة، اتصال وقطيعة، عمل سياسي دنيوي بحت، "وأنتم أعلم بشؤون دنياكم"، ولا يجب على حماس أن تمنح هذا السلوك غطاءً دينياً، أو تحرك ذلك التحرك منه، من دون الحاجة لذلك، وإلا فإنها، بهذه الطريقة، "تضيق واسعاً" بلغة الشرعيين أنفسهم.
وليس أدل على ذلك من حديث موسى أبو مرزوق نائب رئيس المكتب السياسي لحماس، حين أعلن، أخيراً، عن إمكانية التفاوض مع إسرائيل، معللاً ذلك بأنه جائز من الناحية الشرعية، وكأنه بذلك يقدم حجة جاهزة على من سينتقده داخل حماس بحركة هذا التفاوض.
في السياق نفسه، تحاول حماس، من باب الخطاب الديني التعبوي لعناصرها، أن تسقط أحداثاً تاريخية، مضى عليها أكثر من 1400 عام على نفسها، لاسيما الجيل النبوي والصحابة الأوائل، بحيث يتخيل لقواعدها التنظيمية أنهم بذلك الامتداد الحقيقي والوحيد لذلك الجيل الأول، وهذا قد يولد في نفوسهم خيبات أمل متلاحقة، إن لم يتنزل الوحي، وينقذ الحركة من سلسلة تراجعات قد تعيشها، وعاشت بعضها.
التعثرات في حياة الحركات السياسية أمر طبيعي، ولم تنج منه أي حركة أو دولة، لكن غير الطبيعي أن تستعين حماس بأحداث الماضي السحيق لمحاولة "تصبير" قواعدها، حين يُسألون عن سبب بعض الإخفاقات في السنوات الأخيرة، وهو ما يقوم به "الإخوان المسلمون" في مصر تحديداً، مستعينين بالمقولة الشهيرة: "إذا رأيتم أعواد المشانق تنصب لكم، وأبواب السجون تفتح أمامكم، فاعلموا أنكم على الصواب".. وهذا فهم كارثي قاتل لمفهوم الخطأ والصواب في العمل السياسي.
المرجعيات الدينية في حماس أمر يخص الحركة، لكي تستفيد منهم لدى المواقف المفصلية، وتستدعي بعض النصوص، لتسويق موقف سياسي بعينه، لكن القيادة السياسية لحماس التي تمسك بزمام القرار مدعوة لإيصال رسالة لهذه المرجعيات بأن دورهم يقف عند هذا الحد، وإلا ستصبح حماس، الحركة الوطنية الفلسطينية، رهناً بقراءة كتاب هنا، وصدور فتوى هناك.
3- توليف البعد المصلحي مع الجانب الأخلاقي: جزء أساسي من الأزمة التي تعيشها حماس في السنوات الأخيرة، مرده، كما تدافع عن نفسها بالحديث الضمني، أنها كانت "أخلاقية سكر زيادة"، وربما يدور الحديث تحديداً عن طلاقها البائن مع سورية، وقطيعتها مع إيران، قبيل زيارة وفد قيادي منها طهران أخيراً، والحرب الصامتة مع مصر.
أنصار حركة حماس في مخيم جباليا يحيون الذكرى 27 لانطلاق حركتهم (12ديسمبر/2014/أ.ف.ب) |
وقد يسأل سائل: هل المطلوب أن تقتفي حماس منطق "الغاية تبرر الوسيلة"، وتتبع المصالح السياسية، وتقصي الجانب الأخلاقي من مواقفها وعلاقاتها؟ ليس بالضرورة هذا المقصود. لكن، مهم أن تبقي حماس هامشاً من المناورة مع أي خصم يلوح في الأفق، مستعينة بـ"شعرة معاوية"، فلا تحسب على نظام يقتل شعبه، أو ينقلب على تجربةٍ ديمقراطيةٍ من جهة، وفي الوقت نفسه لا تتبنى خطاباً معادياً له، وتصور نفسها كما لو كانت رأس الحربة ضده، حتى لو كانت أعمالاُ فردية من بعض عناصرها من جهة أخرى.
حتى زيارة قادة منها إيران أخيراً، اضطرت الحركة لتبريرها، وسعى المقربون منها لشرعنتها، وهم ليسوا بحاجة لذلك. هذه علاقات سياسية بحتة، ومصالح متبادلة، بين طرفين يرى كل منهما أنه بحاجة للآخر بنسب متفاوتة، ألا ترون معي كيف استغلت حركة فتح القطيعة بين حماس وسورية، وبات بعض قادة منظمة التحرير زواراً مرحباً بهم في القصر الجمهوري في دمشق؟ هل هذه انتهازية سياسية، يجوز ذلك، لكنها السياسة التي لا تعرف الفراغ!
أدرك تماماً أن إيجاد صيغة توفيقية بين الأخلاق والمصالح أمر قد يبدو متعذراً كثيراً في المشهد السياسي الفلسطيني والعربي، لكن حماس، كونها تحمل هماً وطنياً، تجد نفسها، أكثر من سواها، مطالبة باشتقاق هذا اللون الرمادي بين الأبيض والأسود، وربما التجربة القاسية في السنوات الأخيرة كفيلة بتجاوزها مثل هذه العثرات.
4- فك الارتباط مع "الإخوان المسلمين": لا تستطيع حماس أن تتنصل من تاريخ عمره سبعة عقود متواصلة، تلخص وجود جماعة الإخوان المسلمين على أرض فلسطين، منذ شاركوا في حرب 1948، وبعدها في محطات كثيرة، تعتبرها حماس تهيئة لانطلاقها أواخر ثمانينيات القرن الماضي، تماماً كما كان الحال عليه، إبان ارتباط المنظمات الفلسطينية، القومية واليسارية، بمرجعياتها في الدول العربية.
لكن، ما يميز ارتباط حماس العضوي والتنظيمي مع "الإخوان"، أن هذه الحركة الوطنية الفلسطينية تضطر، مكرهة مجبرة مرغمة، على دفع أثمان صراعات الجماعة الأم مع الأنظمة العربية، التي قد يكون لبعضها علاقات إيجابية مع حماس أحياناً.
حبر كثير سال للكتابة في هذه القضية داخل حماس وخارجها، ولئن تبدى لحماس أن هذا المطلب يبدو نكراناً منها تجاه "أخيها الأكبر"، ممثلاً بالجماعة الأم، لكن الأخيرة مطالبة بتيسير هذه المهمة أمام حماس، فالحركة، وإن كانت أحد فروعها في المنطقة العربية، لكن ما لديها من أجندات وطنية فلسطينية محلية يفرض عليها أن تغلب هذا الجانب على سواه من ارتباطات خارجية، حتى لو كانت معنوية أيديولوجية، وهو ما سبب لها آلاماً وأوجاعاً كثيرة، وآن لها أن ترتاح منه، وإلى الأبد!
في وسع حماس ألا تنظر للأمر كما لو كان إملاءً عليها، يبديها كمن تجثو على ركبتيها، بل يمكن اعتباره أحد مفاتيح اختراق الجدار الإقليمي والدولي المفروض عليها، ومقدمة للخروج من ثنائية "الأخونة والفلسطنة"، في ضوء معاناة تعانيها جراء الجمع القسري بينهما، كما يبدو.
أدرك أن ذلك ليس سهلاً، وربما يكون تجرع السم على حماس أهون بكثير من هذا القرار، لكنها مطالبة، أكثر من أي وقت مضى، للمضي في طرح هذا النقاش الجدي في صفوفها، ولاسيما أن هناك نقاشات على مستوى كبير تطالب بحل جماعة الإخوان المسلمين نفسها، في الوطن الأم مصر، فكيف والحديث يتناول حركة قادمة من رحم الجماعة، لكنها تدفع عنها أثماناً سياسية بالوكالة!
أخيراً...هذه مؤشرات أولية لمراجعات تبدو حركة حماس مطالبة بأن تخوضها، وليس بالضرورة أن تعتبرها سلبيات مطلقة، أو إيجابيات كاملة، لكن إبقاء تلك الملفات، الآنفة الذكر، على حالها، من دون إجراء تغيير أو تعديلات، أو حتى الاستفادة منها على طريقة "التغذية الراجعة"، بلغة أهل التربية، سيعني أن حماس تستنسخ مشكلاتها ومعاناتها، والفلسطينيين معها.
ولعل مرور 27 عاماً على تأسيس حماس تعتبر فترة زمنية كافية لوصولها إلى مرحلة من النضوج الفكري والبلوغ السياسي، يدفعها إلى أن تكون أكثر جرأة في إجراء هذه المراجعات، لأن الأصوات المتزايدة في حماس بضرورة إجرائها تجد صعوبة في تسويق بعض مواقف الحركة، وهي ترى ممارسات متباينة في بعض القضايا، مردها الأساسي أن حماس عالجت بعض القشور على خجل واستحياء، من دون أن تذهب نحو الأصول والجذور، فهناك المهمة، والمهمة الصعبة، التي لا بد منها!