تعتبر تجربة الانتماء إلى الحدود أو إلى التعدد المكاني أو إلى اللامكان كفضاء استثنائي، تجربة متفردة في مجال الإبداع الفني والأدبي، فكل من عاش حقاً مثل هذه التجربة إبداعياً لا يمكن ألا تترك في نفسه المشروخة بالأصوات والصور والحركة، كما تفعل في أعماله الإبداعية، باعتبارها رصداً وملاحقة لما تحدثه هذه الأصوات والصور والحركة من آثار في الذات، فالإبداع خارج الذات لا معنى له.
يحضر فنان الصورة الفوتوغرافية حمادي عنانو دوماً في هذا الأفق الذي تشتعل فيه الحدود وتضع حواجزها وأسلاكها الشائكة وحرسها المحاصرين للإنسان في حركته وفي امتدادات عينه نحو الأفق. لذلك كان من الطبيعي أن تكون أعماله مرهفة تلتقط الصور من زوايا مفاجئة ومدهشة وصادمة أحياناً، ترى ما لا تراه عين مجردة، ولذلك استطاعت صوره أن تعبر الآفاق.
ينتمي عنانو إلى آل الفونتي، إحدى الأسر الموريسكية التي هاجرت إلى المغرب بعد سقوط الأندلس، واستقرت في منطقة حدودية مع ثغر مليلية، خلال القرن السابع عشر، هنالك في تلك المنطقة الملتبسة التي تغرق في لعبة الضوء والعتمة سيولد الفونتي وسيعرف خطواته الأولى، وسينسج علاقته المتشابكة مع الحدود التي تحولت مع مرور الزمن إلى سياجات تخنق الإنسان. لكن الطفل فيه، الذي كان دوما يمتلك عينا سحرية تفتتن بالضوء وبالألوان وبالتنوع وبالقدرة على تأمل الأشياء والعالم، سيجعل من هذه الحدود أفقاً للحوار عبر الصورة الفوتوغرافية وفضاء لبناء امتداداتٍ لخلاسيةٍ ثقافيةٍ مميزةٍ.
جاب عنانو مختلف بقاع العالم خلف الكاميرا بحيث يمكن أن نعتبره رحالة بامتياز؛ اشتغل لسنوات طويلة كمصور فوتوغرافي حر، تقول الكاتبة كلارا ميريت نيكولازي في مقال لها عن مسار هذا الفنان: "للبورتريه الصحافي اهتمام خاص عند عنانو، ما دام يجسد صعوبة التركيب، إذ يفرض التقاط المقابلة كلها في صورة واحدة، صورة واحدة يجب أن تتضمن روح الحديث، وإبراز صدق الشخصية المستجوبة للمتفرج، ودوماً هنالك إصرار المحترف، محترف كان يفضل مع ذلك أن يحس أنه هاوٍ مدى الحياة"، وتحيل الكاتبة إلى كلمات حمادي عنانو: "لا امتياز أن تستطيع أن تكسب عيشك من شيء يروق لك أن تمارسه، ولذلك فأنا محترف، لكن إحساسي سيظل دوماً هاوياً لكي لا أضيع سحر مواجهة المجهول. وعلى الخصوص لكي أمتلك استقلالاً وحرية أكبر".
إن ما يهمنا هنا هو الوجه الآخر لعنانو؛ وجه المصور الفوتوغرافي الفنان الذي يكشف عن الملامح التي أشرنا إليها سالفاً، وهي الحدود كأفق وأثرها على صوره الفوتوغرافية، باعتبارها وسيلته كفنان لبناء حوار حضاري، انطلاقاً من هويته وانتمائه المتعدد الأبعاد والمشارب. فهو يقيم حالياً معرضاً تحت عنوان: "ألوان من المغرب"، في المركز الثقافي "إنكا غراثيلاسو" في مدينة ليما، العاصمة البيروفية، كما سبق له أن تنقل بمعرضه "حوارات بين شفشاون ونيويورك" عبر سبتة وشفشاون وتطوان، وما زال المعرض مستمراً في جولته عبر معاهد سيرفانتيس في المغرب.
يقول عنانو عن فكرة المعرض: "في مساءٍ من بدايات تسعينيات القرن الماضي، في قاعة صغيرة من فندق "بيت حسن" في شفشاون، تعرفت على شخص أستعير اليوم منه حكايته، بينما كنت أتناول إفطاري في تلك الحاضرة التي تنبثق بين الجبال ويشع ضوؤها في كل الجهات برز شخص مهمل الهندام وذو نبرة أميركية واضحة. شرعنا في الحديث، فكشف لي عن دفتر صغير ذي أوراق مُصْفرَّةٍ ودفتين متآكلتين، كان يحفظه مثلما يحفظ المرء أغلى كنوزه. فيه يحفظ سلسلة رسومٍ لأبيه الميت، هذه الرسوم كانت تتعلق بمشاهد من مدينة شفشاون، والتي يبدو من خلالها كما لو أن الزمن لم يمر، رغم انقضاء نصف قرن عليها تقريباً. كان غرض الرجل أن يقطع تلك الشوارع ذاتها التي تبدو في الرسوم الممثلة بالفحم وبعض الألوان الكثيفة، وبجانب صور المدينة الزرقاء كانت توجد رسوم أخرى تناظر سلسلة المشاهد ذاتها في مدينة ناطحات السحاب، نيويورك".
يضيف الفنان: "ما زلتُ أحفظ تلك الصور في ذاكرتي. حاجة التعبير عن المشاعر المعيشة خلال ذلك المساء، جعلتني أنسى اسم وعنوان ذلك النيويوركي الذي بحثتُ عنه طويلا من دون جدوى. بعد خمس وعشرين سنة أريد أن أقوم بتكريم لذلك الشخص المجهول ولذلك الدفتر الذي ترك أثره عميقا في داخلي. وليس من شكل أفضل لأقوم بذلك سوى عبر رفيقتي الوفية الصورة الفوتوغرافية، مستعيداً ذلك الحوار ما بين ضفتي المحيط، بين المدينتين. نبدأ بصور المدينة المغربية لنقوم بتقديم مُقابلها في المدينة الأميركية، آخذين بعين الاعتبار أننا: متساوون ومختلفون".
إن فكرة هذا المعرض في حد ذاتها تنطلق من حكاية خلاسية: الاستكشاف المتبادلُ للآخر وفق تصور يعتبر الاختلاف إغناء للذات، فكما أن الشخصية التي قطعت المحيط لتستكشف بحبٍّ دروب المدينة المغربية من خلال رسوم الأب، رسوم تقيم تقابلات وتوازيات ممكنة من دون فكرة قبلية جاهزة، فإن استعادة الفكرة من خلال التركيز على التساوي والاختلاف لدى عنانو يعتبر بحق تكريماً للفكرة الخلاسية ذاتها، بل إن تجربة الحدود هنا تقف خلف أي مشروع ينبني على حوار الذات مع الآخر.
إن الحساسية المفرطة لفنان يعيش تجربة الحدود بشكل متواصل ويومي بين ثغر سبتة وحاضرة تطوان، لا يمكنها إلا أن تثمر أعمالا مدهشة، لأن التقابلات التي يقيمها عنانو تكشف عن نظرة بالغة النفاذ نحو الأعماق، هكذا فإن جمالية الملصق في نيويورك تقابلها جمالية الباب والأقواس في شفشاون، وسباحة الأطفال في النافورة بنيويورك تقابلها سبحة الأطفال في غدير على مشارف المدينة، وغفوة الشيخ ذي القبعة تقابلها غفوة الشيخ داخل الجلباب، كل الصور تتحاور في ثنائيات متساوية ومختلفة كما يشير إلى ذلك عنانو في الحكاية التي تحتضن فكرة هذا المعرض المتميز.