حليم والثورة: شرخٌ في الأيقونة

30 مارس 2014
+ الخط -
لن يتذكّر العرب والمصريون تحديداً، عبد الحليم حافظ اليوم، الثلاثين من مارس/ آذار، لأنّه ذكرى وفاته، بل سيعترفون أنّه كان من الصعب نسيانه حتى اليوم، إذ ثبت عقداً إثر آخر أنّ هذا الفنّان هو أيقونة شعبية صمدت في وجه الزمن والتحوّلات، حتى السياسية والأيديولوجية، التي عرفتها مصر والعالم العربي مؤخّراً في "ربيعهما العربي" الحارّ والعاصف.

ارتبط "حليم" بالربيع. كان يظهر في احتفالات شمّ النسيم الربيعية، وغالباً ما يطلق أغنياته الجديدة خلالها، وهو أيضاً رحل في الربيع، قبيل حفلة كان سيحييها ويقدّم فيها رائعة محمد عبد الوهاب "من غير ليه". وارتبط أيضاً بثورة يوليو وسمّي مطربها وابنها البارّ.

إن لم يكن صحيحاً ما أُشيع عن أنّ الثورة بدورها خدمت عبد الحليم لوجستياً وليس معنوياً فقط، وأنّ أجهزة الدولة كانت تتدخل لصالحه في تنظيم الحفلات، ومساحة بث أغانيه في الإذاعة وإنتاج الأفلام وغيرها، وإن كان مستبعداً ما قيل عن أنّ الملحنين والشعراء كان يحظر عليهم إعطاء أغانٍ جميلة لغير حليم (مثل محرم فؤاد ومحمد رشدي...) فالأكيد أنّه تميّز بشخصية قويّة وحسّ فطري بأهمية العلاقات العامة والذكاء الاجتماعي والفني أيضاً، وربما القليل من الدهاء، جعلته يتصدّر، وربما ينفرد، ويكون نجم الصفّ الأوّل والأوحد بين مطربي جيله وجنسه. وقد بقي هكذا حتى بعد وفاته، فكأنّ حليماً غفا ذات ربيع وخلد فيه. بقيت أعماله تعيش ربيعها الطويل المتجدّد عاماً بعد عام، حضرت أجيال في الغناء، وغابت أخرى، وبقي هناك من يلاحق طيف حليم يريد تقليده أو مضاهاته من دون أن ينجح، ذلك لأنّ الظرفين الاجتماعي والسياسي اختلفا، ولم يعد ممكناً تكرار تجربة حليم المطرب الرومنسي أو حتى مطرب الثورة.

حين اندلعت ثورة 25 يناير غنّى الثوّار في ميادين مصر: صورة صورة كلنا كده عايزين صورة... واحنا الشعب واخترناك من بين الشعب، وكانوا يوجّهون نداءهم إلى الشعب نفسه، ليكون هو رئيسهم... ومع تطوّرات الأحداث قفز حليم إلى مخيّلات المصريين هذه المرّة عبر المشير السيسي، حين خاطب الشعب إثر الانقلاب على الرئيس محمد مرسي بعاطفة ورقّة وداعب أحلامهم بمقولته الشهيرة: "انتو مش عارفين إنّكم نور عينينا والا إيه؟"، وخاطبهم قبيل الاستفتاء على تعديل الدستور، وخصّ النساء تحديداً بجرعة عاطفية عالية في الحقنة التي أراد بها تهدئة الأزمة الدستورية والسياسية الخطيرة المستفحلة. قال محبّوه إنّه يذكّرهم بعبد الحليم، وقال آخرون إنّه مطرب "ثورتهم" التي "أنقذها" السيسي. لم يثر الأمر مناهضي المشير والانقلاب، لم يكن الوقت ملائماً للدخول في متاهات "حبّك نار" وغيرها من الأغاني العاطفية بينما النار الحقيقية تلتهم الشارع المصري.

منذ أربعة أيام فقط، توجّه السيسي بخطاب جديد، توقّفت الأنفاس وهو يقول إنه الأخير، لكنّه أتبع جملته بتوضيح أنّه "آخر خطاب له كوزير للدفاع"، معلناً استقالته بصوت هادئ، خفيض، غير رتيب، وترشّحه إلى منصب رئيس الجمهورية "تلبيةً لرغبة الشعب المصري".

بينما تمادى أنصار السيسي بربطه بحليم من حيث هو رمز رومنسي، حنون، محبّ، استغلّ معارضوه الأمر، ليسخروا من التشبيه ومن حليم نفسه، الذي جرّت هذه المقارنة عليه وبال السخرية والنقد، اذ انتبه كثيرون إلى أنّ حليماً ليس رمز ثورة عسكرية فقط، بل رمز حكم عسكري شمولي، ما جعل الساخرين يلصقون رأسه على بزّة المشير، مزيّنين كتفيه بالنياشين والنجوم، مع تعليق على لسان المشير: شفت وخداني الأماني لحدّ فين؟ المأخوذة من أغنية "يا خليّ القلب". وبالتالي تسقط أغاني "حليم" وصورته من هرم الثورة إلى قاع السخرية.

لم يعد قائد الثورة يريد مطرباً يخفّف من سطوة صورته العسكرية القاسية، تلبّس القائد روح المطرب الرقيق، فأساء إليه وتسبّب بإهانته.

في ذكرى رحيله الـ 37 يتلقّى حليم ضربة قوية، تتصدّع الأرض تحته، تُشرخ الأيقونة. إنها ذكرى حزينة نخشى أن تطاول "كلّ كلمة حبّ حلوة" غناها حليم لنا ولأهلنا قبلنا، لأحلامنا وذكرياتهم. 

المساهمون