يشتهر كثير من محلات الحلويات في بيروت وضواحيها. لكنّ بعض المحلات الصغيرة التي لا يعلو صيتها كثيراً تحافظ على نمط محدد من الزبائن. ليسوا زبائن أوفياء فقط، بل "أصحاب ذوق"
يفكر علي وهو يحمل الكيس الورقي الذي لا تجد عليه أيّ اسم أو رسم أو علامة تجارية، كيف ستتساءل والدته عن مصدر هذه الحلويات التي يأتي بها. فالحاجّة اعتادت الشراء من محلات تشتهر بأسمائها الرنّانة إن في العاصمة اللبنانية بيروت أو في ضاحيتها الجنوبية حيث تسكن. لكنّ علي يؤكد لها كلّ مرة أنّ عليها أن تذوق قبل أن تحكم. ودائماً ما تكون النتيجة لصالحه. يشير الشاب الثلاثيني وهو يأخذ كيس القطايف بالقشطة المقلية من محلّ "علاء الدين" للحلويات الواقع في أحد أزقة حارة حريك في الضاحية، إلى أنّ هناك سرّاً ما في طعم هذه الحلويات يجعلها شهية إلى هذا الحدّ، خصوصاً في أيام رمضان.
لا يطلعنا الحاج أبو علاء، مالك المحل الصغير، مباشرة على سرّه. يتركنا ويترك غيرنا يشتهون الطعم، بعد تنشقهم الرائحة المكثفة للسمن والحليب والسكّر والجبنة وعجين الكنافة والدقيق الأبيض والأصفر.
لا يكوّم أبو علاء أكواماً من الحلويات. عمله يومي في صنع الأصناف وفي بيعها: "بيّوت يومي" كما يقول. ففي نهاية النهار، وقبل الإفطار بقليل، لا يبقى شيء على رفوفه وصوانيه.
تلك الرفوف تحمل صورة لوالده الحاج علاء الدين الكبير مع صدر مشبّك مليء في المحلّ نفسه بالذات. مات الحاج بعد رمضان الماضي بأشهر قليلة. يحكي أنّ والده فتح محله هذا بالضبط عام 1967 كمطعم يبيع أصناف الفول والحمص والفلافل، وكذلك الحلويات خصوصاً في مواسم رمضان والأعياد. لكنّ الوالد تعلّم المصلحة قبل ذلك بكثير، منذ عام 1950، لدى خاله من آل عساف الذي كان يملك محلاً للحلويات في الغبيري القريبة.
تلك الوفاة لم تمنع أبناءه الذين عملوا معه جميعاً في المهنة منذ صغرهم، من فتح المحل مجدداً، خصوصاً أبو علاء، مع ما في ذلك من حفاظ على إرث المرحوم ومباركة من روحه للحلويات، ما يفسر استمرار تدفق الزبائن العتيقين عليه. ولو أنّ رجلاً كبيراً في السنّ يؤكد وهو يشتري القطايف، أن "لا أحد يشتري على سبيل المحبة"، بالرغم من حبّه للحاج الراحل الذي كان يقدم له النصائح عن "الأطيب" بين أصنافه. وعوضاً عن ذلك، يشير إلى أنّ العاملين في المحلّ يعتمدون النظافة والطهارة أساساً لعملهم، خصوصاً أنّهم يعدّون كلّ شيء أمام الجميع هنا بالذات "على المكشوف"، بالإضافة إلى النفس الطيب والطعم الشهي.
اقــرأ أيضاً
أما الأصناف التي يتحدث عنها الزبون العتيق، فتصل إلى 45 صنفاً أحياناً بحسب أبو علاء. يضعها في عدة خانات، منها المقالي، وتتوزع على: القطايف، والكلاّج، والعوّامات، والمعكرون، والمشبّك بأنواعه الثلاثة البيروتي والحلبي والنبطاني. وهناك المدّات، وفيها: المدّ بقشطة، وجوز، وتمر، ونمّورة، وصفوف. لكنّه توقف عن صنع المدّ بالفستق الحلبي هذا العام بسبب غلائه. كذلك، هناك العثملية والقطايف النيئة والشعيبيات. والأخيرة تباع إمّا بقشطتها المقلية (فم السمكة)، أو بقشطتها النيئة (ورد الشام). وفي العيد هناك دائماً الكنافة بالجبن. أما أسعاره فـ"شعبية دائماً، لا يمكننا أن نرفع السعر أكثر". ومن ذلك أنّ دزّينة (12 حبة) القطايف التي تباع بـ18 ألف ليرة لبنانية (12 دولاراً أميركياً) في المحلات الكبيرة، تباع في محلّ "علاء الدين" بـ10 آلاف ليرة (6.67 دولارات).
في المحلّ، وقبل نحو ساعة من الإفطار، يجتهد أبو علاء ومعه شقيقه وحدهما في إعداد المعكرون، تلك الحلويات الشهية التي تصنع من الدقيق الأبيض والأصفر (طحين فرخة) والخميرة والزيت النباتي والماء. ثم تقلى وتغمر بالقطر. لهذا الصنف بالذات ميزته الظاهرة لديه، فالحبة الواحدة صغيرة جداً "ما يجعلها تشبع بالقطر من الداخل لا كحال الحبة الكبيرة التي لا يصل القطر إلى عمقها". هو يعتمد هذه الطريقة التي يعدّ الكيلو الواحد منها 40 حبة، مع ما في ذلك من تعب إضافي، بعكس الطريقة الأخرى التي يعدّ الكيلو الواحد منها نحو 20 حبّة فقط.
يستعيد أبو علاء بالرغم من انشغاله في بيع الزبائن بعض الذكريات، ولا يتوانى عن التباهي أنّ بعض المعلّمين المعروفين الذين مرّوا في المحلّ وتعلّموا منه، باتوا يعملون في أشهر محلات الحلويات لا في لبنان فقط بل في الخارج أيضاً. كما يتباهى من ناحية أخرى أنّ محلات كبيرة جداً، وصاحبة أشهر الأسماء، كانت تشتري المقالي من والده يومياً. لا يذيع سرّاً كما يقول إذ يؤكد أنّ "المحلات الكبيرة على الرغم من بيعها المقالي فإنّها تتعاقد مع محلات أصغر من أجل تزويدها بها".
وسط الجو الحار، خصوصاً مع المقلى الملتهب بزيته المغلي الذي لا يفرغ أبداً من القطائف إسقاطاً وجمعاً، يأمل أبو علاء أن يوسّع المصلحة يوماً ما إلى محلّ كبير جداً. وعلى الرغم من قوله إنّ أسماء المحلات الشهيرة تجذب الناس عادة، فإنّه يثق في ذوق من يأتون إليه، ويؤكد انطلاقاً من ذوقهم أنّه قادر على منافسة أشهر محلات المنطقة.
تبقى تلك النكهة المميزة في رائحة الحلويات في محل "علاء الدين" وطعمها. لا يتركنا الحاج أبو علاء نغادر قبل أن يخبرنا عنها. صحيح أنّها من "روح" والده، لكنّها أيضاً سرّ يتعلق بالمواد المستخدمة: "السمنة فقط.. السمنة التي تلعب الدور كلّه وتميز طعماً عن طعم.. ونحن لا نستعمل إلاّ هذا في حلوياتنا..." يشير إلى نوع من السمن البقري المعروف بجودته وثمنه المرتفع.
اقــرأ أيضاً
يفكر علي وهو يحمل الكيس الورقي الذي لا تجد عليه أيّ اسم أو رسم أو علامة تجارية، كيف ستتساءل والدته عن مصدر هذه الحلويات التي يأتي بها. فالحاجّة اعتادت الشراء من محلات تشتهر بأسمائها الرنّانة إن في العاصمة اللبنانية بيروت أو في ضاحيتها الجنوبية حيث تسكن. لكنّ علي يؤكد لها كلّ مرة أنّ عليها أن تذوق قبل أن تحكم. ودائماً ما تكون النتيجة لصالحه. يشير الشاب الثلاثيني وهو يأخذ كيس القطايف بالقشطة المقلية من محلّ "علاء الدين" للحلويات الواقع في أحد أزقة حارة حريك في الضاحية، إلى أنّ هناك سرّاً ما في طعم هذه الحلويات يجعلها شهية إلى هذا الحدّ، خصوصاً في أيام رمضان.
لا يطلعنا الحاج أبو علاء، مالك المحل الصغير، مباشرة على سرّه. يتركنا ويترك غيرنا يشتهون الطعم، بعد تنشقهم الرائحة المكثفة للسمن والحليب والسكّر والجبنة وعجين الكنافة والدقيق الأبيض والأصفر.
لا يكوّم أبو علاء أكواماً من الحلويات. عمله يومي في صنع الأصناف وفي بيعها: "بيّوت يومي" كما يقول. ففي نهاية النهار، وقبل الإفطار بقليل، لا يبقى شيء على رفوفه وصوانيه.
تلك الرفوف تحمل صورة لوالده الحاج علاء الدين الكبير مع صدر مشبّك مليء في المحلّ نفسه بالذات. مات الحاج بعد رمضان الماضي بأشهر قليلة. يحكي أنّ والده فتح محله هذا بالضبط عام 1967 كمطعم يبيع أصناف الفول والحمص والفلافل، وكذلك الحلويات خصوصاً في مواسم رمضان والأعياد. لكنّ الوالد تعلّم المصلحة قبل ذلك بكثير، منذ عام 1950، لدى خاله من آل عساف الذي كان يملك محلاً للحلويات في الغبيري القريبة.
تلك الوفاة لم تمنع أبناءه الذين عملوا معه جميعاً في المهنة منذ صغرهم، من فتح المحل مجدداً، خصوصاً أبو علاء، مع ما في ذلك من حفاظ على إرث المرحوم ومباركة من روحه للحلويات، ما يفسر استمرار تدفق الزبائن العتيقين عليه. ولو أنّ رجلاً كبيراً في السنّ يؤكد وهو يشتري القطايف، أن "لا أحد يشتري على سبيل المحبة"، بالرغم من حبّه للحاج الراحل الذي كان يقدم له النصائح عن "الأطيب" بين أصنافه. وعوضاً عن ذلك، يشير إلى أنّ العاملين في المحلّ يعتمدون النظافة والطهارة أساساً لعملهم، خصوصاً أنّهم يعدّون كلّ شيء أمام الجميع هنا بالذات "على المكشوف"، بالإضافة إلى النفس الطيب والطعم الشهي.
أما الأصناف التي يتحدث عنها الزبون العتيق، فتصل إلى 45 صنفاً أحياناً بحسب أبو علاء. يضعها في عدة خانات، منها المقالي، وتتوزع على: القطايف، والكلاّج، والعوّامات، والمعكرون، والمشبّك بأنواعه الثلاثة البيروتي والحلبي والنبطاني. وهناك المدّات، وفيها: المدّ بقشطة، وجوز، وتمر، ونمّورة، وصفوف. لكنّه توقف عن صنع المدّ بالفستق الحلبي هذا العام بسبب غلائه. كذلك، هناك العثملية والقطايف النيئة والشعيبيات. والأخيرة تباع إمّا بقشطتها المقلية (فم السمكة)، أو بقشطتها النيئة (ورد الشام). وفي العيد هناك دائماً الكنافة بالجبن. أما أسعاره فـ"شعبية دائماً، لا يمكننا أن نرفع السعر أكثر". ومن ذلك أنّ دزّينة (12 حبة) القطايف التي تباع بـ18 ألف ليرة لبنانية (12 دولاراً أميركياً) في المحلات الكبيرة، تباع في محلّ "علاء الدين" بـ10 آلاف ليرة (6.67 دولارات).
في المحلّ، وقبل نحو ساعة من الإفطار، يجتهد أبو علاء ومعه شقيقه وحدهما في إعداد المعكرون، تلك الحلويات الشهية التي تصنع من الدقيق الأبيض والأصفر (طحين فرخة) والخميرة والزيت النباتي والماء. ثم تقلى وتغمر بالقطر. لهذا الصنف بالذات ميزته الظاهرة لديه، فالحبة الواحدة صغيرة جداً "ما يجعلها تشبع بالقطر من الداخل لا كحال الحبة الكبيرة التي لا يصل القطر إلى عمقها". هو يعتمد هذه الطريقة التي يعدّ الكيلو الواحد منها 40 حبة، مع ما في ذلك من تعب إضافي، بعكس الطريقة الأخرى التي يعدّ الكيلو الواحد منها نحو 20 حبّة فقط.
يستعيد أبو علاء بالرغم من انشغاله في بيع الزبائن بعض الذكريات، ولا يتوانى عن التباهي أنّ بعض المعلّمين المعروفين الذين مرّوا في المحلّ وتعلّموا منه، باتوا يعملون في أشهر محلات الحلويات لا في لبنان فقط بل في الخارج أيضاً. كما يتباهى من ناحية أخرى أنّ محلات كبيرة جداً، وصاحبة أشهر الأسماء، كانت تشتري المقالي من والده يومياً. لا يذيع سرّاً كما يقول إذ يؤكد أنّ "المحلات الكبيرة على الرغم من بيعها المقالي فإنّها تتعاقد مع محلات أصغر من أجل تزويدها بها".
وسط الجو الحار، خصوصاً مع المقلى الملتهب بزيته المغلي الذي لا يفرغ أبداً من القطائف إسقاطاً وجمعاً، يأمل أبو علاء أن يوسّع المصلحة يوماً ما إلى محلّ كبير جداً. وعلى الرغم من قوله إنّ أسماء المحلات الشهيرة تجذب الناس عادة، فإنّه يثق في ذوق من يأتون إليه، ويؤكد انطلاقاً من ذوقهم أنّه قادر على منافسة أشهر محلات المنطقة.
تبقى تلك النكهة المميزة في رائحة الحلويات في محل "علاء الدين" وطعمها. لا يتركنا الحاج أبو علاء نغادر قبل أن يخبرنا عنها. صحيح أنّها من "روح" والده، لكنّها أيضاً سرّ يتعلق بالمواد المستخدمة: "السمنة فقط.. السمنة التي تلعب الدور كلّه وتميز طعماً عن طعم.. ونحن لا نستعمل إلاّ هذا في حلوياتنا..." يشير إلى نوع من السمن البقري المعروف بجودته وثمنه المرتفع.