حدّثني ذاك المساء، قال: "ثمة أخطاء لا ترحم، أو هكذا يُخَيّل إليّ في أمر هذا الحلم الذي أخبرتها به. تُرى لِمَ فعلتُ؟ مُذّاك، أشعر بتغيّر في نظرتها إليّ، يصعب عليَّ إدراكه. صحيح أنّها فتحتْ لي، منذ البدء، بوّابة ذاتها الخفيّة، وشرّعتْ أمامي نوافذ ماضيها. كانت عليَّ معاملتها بالمثل. لكنّي أرى الآن أنّ ثمّة حدوداً، ما كان يجب، من جهتي، تخطّيها، لا أدري".
"في أيّ حال"، أقول لنفسي، "كيف الالتقاء الطويل وكيف المواءمة، بين فسحة ذاتي، المزدحمة بأجساد مئات القتلى، المثقوبي الصدور، الحانية عليهم أمهاتهم في ليالي الفراق الرهيب، السائرة في جنازاتهم كل تلك الحشود، تحت تلك الشموس الحارقة، وفسحة ذاتها، الماثل فيها جسد عمّها الوحيد، المستلقي إلى الأبد على ضفة نهر المارن المتجمّد، الذي غاب قبل ولادتها بسنين طويلة؟".
ثمّ أضاف: "كان حلماً نهاريّاً غريباً، قاسياً، في إغفاءة بعد الظهر، وشمس الجبل تضرب بقسوة حائط الغرفة الكبيرة الغربي.
كنتُ مقيماً في بيت فسيح، لا أدري أين، مؤلّفٍ من طبقة واحدة عالية السقف، يحوطه ما يشبه الحديقة، غير المسوّرة، القليلة الأشجار والنبات، المفتوحة من كلّ الجهات على المدى الواسع.
كان هناك، هائماً في الخارج، ذلك الكلب، المؤتمن على ولدٍ ضامرٍ، على نحو غريب، لا يزيد طوله عن الشبر. أرى الآن أنه يشبه الجنين، في مراحله الأولى، لكن لم يراودني هذا الشبه في المنام قطّ. كانت أعضاؤه صغيرة جداً، وكان رأسه مستديراً وبالغ الصغر، بلا ملامح، ككرة المضرب.
كان الكلب يلازم الطفل ويعتني به على الدوام. كانا يتحرّكان معاً، الكلب على قوائمه الأربع، والطفل لا أدري كيف. كأنه يسبح حوله في الفراغ، على علوٍّ جدّ منخفض، ويتبعه كيفما اتّجه. لم يكن لهما من مأوى. كانا يهيمان في الطبيعة المجاورة، ويمرّان باستمرار أمام بيتي، لا أدري لماذا، كأنهما يريدان لفت انتباهي إليهما، من دون أن ينظرا إليَّ.
كان الولد هو كلّ ما بقي ها هنا من ذلك الرجل المغترب، الشرّير، الماكر، القاسي القلب، الذي لا يعرف إلهاً إلا المال، والقادر على فعل أيّ شيء من أجله، والذي ألحق الأذى بأهله ومحيطه، وهيمن على كلّ شيء بكلّ الوسائل، ثم هاجر نهائيّاً مع عائلته إلى أميركا اللاتينية. "لم يترك عيناً لم يدمعها"، كما يقول المثل هنا.
اقرأ أيضاً: أنا وجبران وصليبا
كان الطفل العجيب سيكبر، وسينمو كغرسةٍ تقوى ويشتدّ عودها شيئاّ فشيئاً. وسيأتي يوم يُكرِّسُ فيه، من جديد، الوجود الشرّير لذلك الرجل المقيم وراء البحار.
أمّا الكلب فلم يكن شرّيراً. لكنه كان ينطوي على شيء غير مألوف أبداً. كان له ما يشبه الإدراك والمعرفة. كان فيه الكثير من ذات البشر. كأنه، وراء شكله الحيواني، يخفي نفساً عاقلة. كأنّه مزيجٌ من شكله الظاهر وذاته الخفيّة، إذا جاز التعبير، ما يميّزه تماماً من بني جنسه.
وذات يوم، في ظروف لم أعد أتذكّرها حقاً، قررتُ قتل الولد. دهسته بشدّة برجلي، في وقتٍ لم يكن الكلب فيه موجوداً. وقبل أن أدهسه، تحوّل الولد رأساً فقط. لا أذكر أني دهستُ جسداً، ولو صغيراً إلى حدّ لا يوصف، وهو فعل لا طاقة لي عليه البتّة. دهستُ رأساً آتياً من عالم الجماد، وليس من عالم الأحياء. رأساً مستديراً، صغيراً جدّاً، بلا ملامح، أشبه ما يكون بكرَة المضرب، تحطّم شرّ تحطيم تحت وقع قدمي، وتطاير شظايا في كل اتجاه".
صمتَ قليلاً ليلتقط أنفاسه، ثم أكمل: "لقد أزلتُ، بضربة واحدة، كلّ ما بقي، ها هنا، من ذلك المغترب الشرير. لن يبقى له، في هذه الأنحاء، من أثر، ولا من بذرة تنمو وتكبر، وتصبح ممثلة ذاته. انتفى نهائيّاً هذا الإمكان".
"بعد أن قمتُ بذلك"، أضاف، "امتلكني الاضطراب. بدأت أتساءل بقلق عميق: كيف حدث ما حدث؟ كيف ارتكبتُ فعل القتل، للمرّة الأولى في حياتي، أنا الذي لا أقدِم على إيذاء حشرة، فأقول لنفسي في كلّ مرّة: دعها وشأنها، اتْرك لها نعمة الحياة. كيف دهستُ برجلي هذا الرأس- الطفل، فأضحى شظايا، وإن كان آتياً، لا أدري كيف، ممّا يشبه عالم الجماد؟".
"امتلكني الاضطراب"، قال، "لكني كنت مرتاحاً في شكلٍ ما، في قرارتي، لتأكّدي من أنه لم يرَ أحدٌ فعلتي، ولا أحد عرف أو سيعرف بها. انتهى الأمر".
لكن ما لبث أن خاب ظنّي. إذ أحاط ببيتي، بعد حينٍ، حشد من الناس، لا أدري من أين أتوا، في هذا المكان الذي لم أرَ فيه يوماً غير الكلب والولد الهائمين على وجهيهما. حشدٌ كبير من الرجال والنساء، المنتظمين في صفوف متراصّة، المتّشحين بثياب تقليديّة داكنة، أنيقة، شبيه إلى حدّ ما بعضها ببعض، يغلب عليها الأسود، المطعّم بالبنّي والرمادي الغامقين، ثيابٍ تخفي تماماً أجسادهم، ما عدا رؤوسهم. لم يكن الكلب معهم. كانت لهم وقفة واحدة، ونظرة واحدة، وهويّة واحدة، وجمالية واحدة، إذا أمكن القول. كانوا مبعث رهبة كبيرة.
أتوا يسألونني: "أين هو الطفل؟". تساءلت بخوف، كيف عرفَ هذا الحشد من البشر باختفاء الولد، وما علاقتهم به، وما الذي يهمّهم فيه؟ شعرتُ أنّ لهم طريقة جد غريبة في المعرفة، لا أدرك كنهها. وشعرتُ أنّ شكوكاً واضحة تساورهم حول فعلتي، لكن ليس إلى حدّ اتّهامي صراحة بها. أو ربما هي طريقتهم البطيئة، الواثقة، الصارمة، في التعبير عمّا يعرفون. لكنّهم مصرّون، حاسمون، في إرادتهم الحصول على جوابي.
"كنتُ عاجزاً عن الإجابة، أي إجابة. كانت عيونهم، شاخصة، في نظرةٍ واحدة، إليّ، تأمرني بإلحاح صامت، شديد الوطأة، بأن أتكلّم. وجدتُ نفسي في مأزق محكم، لا سبيل للخروج منه. استبدّ بي القلق والخوف على نحو يستحيل احتماله، فاستفقتُ مرعوباً، والعرق يتصبّب من كل أنحاء جسدي".
"رأيتُ نفسي أنادي بصوتٍ خافت " كلارا، كلارا". خُيّل إليّ، للوهلة الأولى، أننا معاً في فندق مدينة أرل، الصغير، الهادئ، المُطّل على نهر الرون، الذي غادرناه قبل أسبوعين، لتمضية بعض عطلة الصيف في جبل المكمل، موطن طفولتي وصباي".
سرعان ما أدركتُ أنّي، وحدي، في بيتنا الجبلي، وأن التقاليد لم تسمح لكلارا – التي لم تشأ والدتي التعرّف إليها – بالإقامة معي هنا، كما لم تسمح لي بالإقامة معها في فندق "الشفق"، حيث تنتظرني الآن.
استعدتُ، وأنا أجتاز على القدمين، الطريق إلى الفندق، مشاهدات رحلتنا البحرية، كلارا وأنا، من مرسيليا إلى هنا. كأنّي، من دون أن أدري، كنت ألجأ إلى إيقاعات اليمّ الليليّ، ومداه الشاسع، الساحر، تحت سماء كاملة الاستدارة، صافية الأديم، لأخففّ من هول العمران، المحيط بي من كل صوب، والذي اجتاح، على نحو مخيف، حقول القمح وجنائن التفاح والخوخ والإجاص، على جانبي الطريق، فلم يُبقِ من مراتع ذاكرتي شجرة واحدة، ولا عصفوراً.
حين وصلتُ إلى كلارا وأخبرتها بالحلم، بعد قليل، كانت جالسة وحيدة، فاتنة، تُسرِّح نظرها، من علو شاهق، في صفحة المتوسّط، وهي ترتدي فستاناً خفيفاً أزرق، موشّى بالأزاهير البريّة.
"في أيّ حال"، أقول لنفسي، "كيف الالتقاء الطويل وكيف المواءمة، بين فسحة ذاتي، المزدحمة بأجساد مئات القتلى، المثقوبي الصدور، الحانية عليهم أمهاتهم في ليالي الفراق الرهيب، السائرة في جنازاتهم كل تلك الحشود، تحت تلك الشموس الحارقة، وفسحة ذاتها، الماثل فيها جسد عمّها الوحيد، المستلقي إلى الأبد على ضفة نهر المارن المتجمّد، الذي غاب قبل ولادتها بسنين طويلة؟".
ثمّ أضاف: "كان حلماً نهاريّاً غريباً، قاسياً، في إغفاءة بعد الظهر، وشمس الجبل تضرب بقسوة حائط الغرفة الكبيرة الغربي.
كنتُ مقيماً في بيت فسيح، لا أدري أين، مؤلّفٍ من طبقة واحدة عالية السقف، يحوطه ما يشبه الحديقة، غير المسوّرة، القليلة الأشجار والنبات، المفتوحة من كلّ الجهات على المدى الواسع.
كان هناك، هائماً في الخارج، ذلك الكلب، المؤتمن على ولدٍ ضامرٍ، على نحو غريب، لا يزيد طوله عن الشبر. أرى الآن أنه يشبه الجنين، في مراحله الأولى، لكن لم يراودني هذا الشبه في المنام قطّ. كانت أعضاؤه صغيرة جداً، وكان رأسه مستديراً وبالغ الصغر، بلا ملامح، ككرة المضرب.
كان الكلب يلازم الطفل ويعتني به على الدوام. كانا يتحرّكان معاً، الكلب على قوائمه الأربع، والطفل لا أدري كيف. كأنه يسبح حوله في الفراغ، على علوٍّ جدّ منخفض، ويتبعه كيفما اتّجه. لم يكن لهما من مأوى. كانا يهيمان في الطبيعة المجاورة، ويمرّان باستمرار أمام بيتي، لا أدري لماذا، كأنهما يريدان لفت انتباهي إليهما، من دون أن ينظرا إليَّ.
كان الولد هو كلّ ما بقي ها هنا من ذلك الرجل المغترب، الشرّير، الماكر، القاسي القلب، الذي لا يعرف إلهاً إلا المال، والقادر على فعل أيّ شيء من أجله، والذي ألحق الأذى بأهله ومحيطه، وهيمن على كلّ شيء بكلّ الوسائل، ثم هاجر نهائيّاً مع عائلته إلى أميركا اللاتينية. "لم يترك عيناً لم يدمعها"، كما يقول المثل هنا.
اقرأ أيضاً: أنا وجبران وصليبا
كان الطفل العجيب سيكبر، وسينمو كغرسةٍ تقوى ويشتدّ عودها شيئاّ فشيئاً. وسيأتي يوم يُكرِّسُ فيه، من جديد، الوجود الشرّير لذلك الرجل المقيم وراء البحار.
أمّا الكلب فلم يكن شرّيراً. لكنه كان ينطوي على شيء غير مألوف أبداً. كان له ما يشبه الإدراك والمعرفة. كان فيه الكثير من ذات البشر. كأنه، وراء شكله الحيواني، يخفي نفساً عاقلة. كأنّه مزيجٌ من شكله الظاهر وذاته الخفيّة، إذا جاز التعبير، ما يميّزه تماماً من بني جنسه.
وذات يوم، في ظروف لم أعد أتذكّرها حقاً، قررتُ قتل الولد. دهسته بشدّة برجلي، في وقتٍ لم يكن الكلب فيه موجوداً. وقبل أن أدهسه، تحوّل الولد رأساً فقط. لا أذكر أني دهستُ جسداً، ولو صغيراً إلى حدّ لا يوصف، وهو فعل لا طاقة لي عليه البتّة. دهستُ رأساً آتياً من عالم الجماد، وليس من عالم الأحياء. رأساً مستديراً، صغيراً جدّاً، بلا ملامح، أشبه ما يكون بكرَة المضرب، تحطّم شرّ تحطيم تحت وقع قدمي، وتطاير شظايا في كل اتجاه".
صمتَ قليلاً ليلتقط أنفاسه، ثم أكمل: "لقد أزلتُ، بضربة واحدة، كلّ ما بقي، ها هنا، من ذلك المغترب الشرير. لن يبقى له، في هذه الأنحاء، من أثر، ولا من بذرة تنمو وتكبر، وتصبح ممثلة ذاته. انتفى نهائيّاً هذا الإمكان".
"بعد أن قمتُ بذلك"، أضاف، "امتلكني الاضطراب. بدأت أتساءل بقلق عميق: كيف حدث ما حدث؟ كيف ارتكبتُ فعل القتل، للمرّة الأولى في حياتي، أنا الذي لا أقدِم على إيذاء حشرة، فأقول لنفسي في كلّ مرّة: دعها وشأنها، اتْرك لها نعمة الحياة. كيف دهستُ برجلي هذا الرأس- الطفل، فأضحى شظايا، وإن كان آتياً، لا أدري كيف، ممّا يشبه عالم الجماد؟".
"امتلكني الاضطراب"، قال، "لكني كنت مرتاحاً في شكلٍ ما، في قرارتي، لتأكّدي من أنه لم يرَ أحدٌ فعلتي، ولا أحد عرف أو سيعرف بها. انتهى الأمر".
لكن ما لبث أن خاب ظنّي. إذ أحاط ببيتي، بعد حينٍ، حشد من الناس، لا أدري من أين أتوا، في هذا المكان الذي لم أرَ فيه يوماً غير الكلب والولد الهائمين على وجهيهما. حشدٌ كبير من الرجال والنساء، المنتظمين في صفوف متراصّة، المتّشحين بثياب تقليديّة داكنة، أنيقة، شبيه إلى حدّ ما بعضها ببعض، يغلب عليها الأسود، المطعّم بالبنّي والرمادي الغامقين، ثيابٍ تخفي تماماً أجسادهم، ما عدا رؤوسهم. لم يكن الكلب معهم. كانت لهم وقفة واحدة، ونظرة واحدة، وهويّة واحدة، وجمالية واحدة، إذا أمكن القول. كانوا مبعث رهبة كبيرة.
أتوا يسألونني: "أين هو الطفل؟". تساءلت بخوف، كيف عرفَ هذا الحشد من البشر باختفاء الولد، وما علاقتهم به، وما الذي يهمّهم فيه؟ شعرتُ أنّ لهم طريقة جد غريبة في المعرفة، لا أدرك كنهها. وشعرتُ أنّ شكوكاً واضحة تساورهم حول فعلتي، لكن ليس إلى حدّ اتّهامي صراحة بها. أو ربما هي طريقتهم البطيئة، الواثقة، الصارمة، في التعبير عمّا يعرفون. لكنّهم مصرّون، حاسمون، في إرادتهم الحصول على جوابي.
"كنتُ عاجزاً عن الإجابة، أي إجابة. كانت عيونهم، شاخصة، في نظرةٍ واحدة، إليّ، تأمرني بإلحاح صامت، شديد الوطأة، بأن أتكلّم. وجدتُ نفسي في مأزق محكم، لا سبيل للخروج منه. استبدّ بي القلق والخوف على نحو يستحيل احتماله، فاستفقتُ مرعوباً، والعرق يتصبّب من كل أنحاء جسدي".
"رأيتُ نفسي أنادي بصوتٍ خافت " كلارا، كلارا". خُيّل إليّ، للوهلة الأولى، أننا معاً في فندق مدينة أرل، الصغير، الهادئ، المُطّل على نهر الرون، الذي غادرناه قبل أسبوعين، لتمضية بعض عطلة الصيف في جبل المكمل، موطن طفولتي وصباي".
سرعان ما أدركتُ أنّي، وحدي، في بيتنا الجبلي، وأن التقاليد لم تسمح لكلارا – التي لم تشأ والدتي التعرّف إليها – بالإقامة معي هنا، كما لم تسمح لي بالإقامة معها في فندق "الشفق"، حيث تنتظرني الآن.
استعدتُ، وأنا أجتاز على القدمين، الطريق إلى الفندق، مشاهدات رحلتنا البحرية، كلارا وأنا، من مرسيليا إلى هنا. كأنّي، من دون أن أدري، كنت ألجأ إلى إيقاعات اليمّ الليليّ، ومداه الشاسع، الساحر، تحت سماء كاملة الاستدارة، صافية الأديم، لأخففّ من هول العمران، المحيط بي من كل صوب، والذي اجتاح، على نحو مخيف، حقول القمح وجنائن التفاح والخوخ والإجاص، على جانبي الطريق، فلم يُبقِ من مراتع ذاكرتي شجرة واحدة، ولا عصفوراً.
حين وصلتُ إلى كلارا وأخبرتها بالحلم، بعد قليل، كانت جالسة وحيدة، فاتنة، تُسرِّح نظرها، من علو شاهق، في صفحة المتوسّط، وهي ترتدي فستاناً خفيفاً أزرق، موشّى بالأزاهير البريّة.