11 نوفمبر 2024
حكومات وقرارات واحتجاجات
المسكوت عنه في ظاهرة "السترات الصفراء" أكثر بكثير من المُصرَّح به، فقد أظهرت احتجاجات فرنسا جوانب خفية في الواقع الاجتماعي والاقتصادي الأوروبي. وعلى الرغم من أن اسمها "السترات الصفراء"، إلا أنها كشفت، ولم تستر ما تعانيه المجتمعات الأوروبية المتقدمة من خللٍ في سياسات توزيع الموارد والأعباء بين المواطنين، أيا كانت الفلسفة الاقتصادية المتبعة، اشتراكية أو رأسمالية، فالاحتجاجات لم تقف عند فرنسا، وبدأت العدوى تنتقل إلى هولندا وبلجيكا، وربما إلى دول أخرى لاحقاً. وإذا كان الاقتصاد الفرنسي على طريقة الرئيس إيمانويل ماكرون يخدم الأغنياء على حساب الطبقتين، المتوسطة والدُنيا، فإن العدالة الاجتماعية المطبقة في هولندا وبلجيكا بأشكال مختلفة كان يفترض أن تحول دون نشوب احتجاجاتٍ أو اندلاع غضب شعبي، اعتراضاً على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.
ثمّة جديد آخر فضحته احتجاجات فرنسا، هو أن السُلطة السياسية في العالم متشابهة، في أوروبا أو أفريقيا أو أميركا اللاتينية أو المنطقة العربية، فدائماً الحكومة تظل هي الحكومة، تسيء التقدير وتتأخر في المعالجة، ولا تستجيب إلا اضطرارا. والحديث عن الحكومات لا يعني الحكام وحدهم، أو الوزراء والمسؤولين فقط، بل ينصرف بالأساس إلى المستشارين والتكنوقراط الذين يفترض أنهم الأكثر تخصصا ودراية بأدق تفاصيل الملفات التي تمسّ المواطنين مباشرة، وهم الذين يرشدون أصحاب السلطة إلى أنجح الطرق التي تؤمن استقرارا وتنمية وأسلمها. وتجمع بين مقتضيات السياسات الاقتصادية النظرية وروشتة الإصلاح، مع مراعاة البعد المجتمعي والمتطلبات الحياتية للمواطنين.
المعضلة في المجتمعات المتخلفة والدول غير المتقدمة أن هؤلاء المستشارين والمتخصصين غالبا ما يتعرضون للتهميش والتجاهل من مُتخذي القرار. أو يجري التعامل مع ما يقدمونه بانتقائية، فيؤخذ منه جزء وتترك أجزاء، وقد يطبق ما يؤخذ بشكل يشوهه ويفقده محتواه وجدواه.
في المجتمعات الناضجة والدول المتقدمة، لا يوجد ذلك الخلل، أو هكذا يفترض. لذا لا يبدو منطقياً أن تتكرر الأخطاء نفسها بحذافيرها. ولعل قراء كثيرين لا يتذكرون أن مشهد اندلاع الغضب التلقائي والمفاجئ في فرنسا 2018 لا يختلف كثيراً عن مشهدٍ مشابه جرى في فرنسا أيضاً قبل نصف قرن بالضبط، وأفضى إلى استقالة الرئيس الفرنسي وقتئذ شارل ديغول.
وبين المشهدين، يمكن استدعاء مشهد آخر في منطقتنا العربية، عندما فرضت الحكومة المصرية زيادة طفيفة في سعر السكر، في الأيام الأولى من عام 1977، فخرجت بسببها تظاهرات كبيرة عرفت باسم تظاهرات 18 و19 يناير، ما أجبر الرئيس المصري أنور السادات على التراجع وإلغاء الزيادة.
وليس استعداد "السترات الحمراء" لتظاهرات جديدة في تونس إلا تأكيدا جديدا لتكرار السياسات والقرارات نفسها في مقابل تشابه التطلعات والاحتياجات.
وكما أن الحكومات كلها مثل بعضها، فإن البشر هم أيضاً البشر أنفسهم في كل مكان، يطمحون إلى تحسين أحوالهم، حتى إن كانت جيدة. وما إن تتاح الفرصة، يلجأون لكل الأساليب والأدوات، بغض النظر عن أخلاقيتها وقانونيتها، فتسقط سريعا شعارات التحضر ومبادئ الديمقراطية المؤسسية، وقنوات التعبير والمشاركة المشروعة، إلى آخر مظاهر التحضر والتقدم التي يتباهى الغرب بها دائما. وينطبق هذا على الجانبين، السلطة والمجتمع، فالشرطة الفرنسية لم تتوان عن استخدام القوة لمنع انتشار التظاهرات ووقف المسيرات عن التمدد، فحاولت تقييد حرية المحتجين في التعبير، وبادرت إلى استخدام العنف، باعتبار أن إغلاق الشوارع وإطلاق الغاز كبت للحريات ونوع من العنف. بينما لجأ محتجون بدورهم إلى تحطيم واجهات متاجر ونهب بعضها وإحراق سيارات، في سلوك غير متوقع في أحد أعرق المجتمعات الأوروبية وأكثرها تحضرا. إذن، لم يختلف الفرنسيون، حكومة وشعبا، عن حكومات وشعوب الدولة الفقيرة أو المتخلفة حضاريا، إلا قليلا.
ثمّة جديد آخر فضحته احتجاجات فرنسا، هو أن السُلطة السياسية في العالم متشابهة، في أوروبا أو أفريقيا أو أميركا اللاتينية أو المنطقة العربية، فدائماً الحكومة تظل هي الحكومة، تسيء التقدير وتتأخر في المعالجة، ولا تستجيب إلا اضطرارا. والحديث عن الحكومات لا يعني الحكام وحدهم، أو الوزراء والمسؤولين فقط، بل ينصرف بالأساس إلى المستشارين والتكنوقراط الذين يفترض أنهم الأكثر تخصصا ودراية بأدق تفاصيل الملفات التي تمسّ المواطنين مباشرة، وهم الذين يرشدون أصحاب السلطة إلى أنجح الطرق التي تؤمن استقرارا وتنمية وأسلمها. وتجمع بين مقتضيات السياسات الاقتصادية النظرية وروشتة الإصلاح، مع مراعاة البعد المجتمعي والمتطلبات الحياتية للمواطنين.
المعضلة في المجتمعات المتخلفة والدول غير المتقدمة أن هؤلاء المستشارين والمتخصصين غالبا ما يتعرضون للتهميش والتجاهل من مُتخذي القرار. أو يجري التعامل مع ما يقدمونه بانتقائية، فيؤخذ منه جزء وتترك أجزاء، وقد يطبق ما يؤخذ بشكل يشوهه ويفقده محتواه وجدواه.
في المجتمعات الناضجة والدول المتقدمة، لا يوجد ذلك الخلل، أو هكذا يفترض. لذا لا يبدو منطقياً أن تتكرر الأخطاء نفسها بحذافيرها. ولعل قراء كثيرين لا يتذكرون أن مشهد اندلاع الغضب التلقائي والمفاجئ في فرنسا 2018 لا يختلف كثيراً عن مشهدٍ مشابه جرى في فرنسا أيضاً قبل نصف قرن بالضبط، وأفضى إلى استقالة الرئيس الفرنسي وقتئذ شارل ديغول.
وبين المشهدين، يمكن استدعاء مشهد آخر في منطقتنا العربية، عندما فرضت الحكومة المصرية زيادة طفيفة في سعر السكر، في الأيام الأولى من عام 1977، فخرجت بسببها تظاهرات كبيرة عرفت باسم تظاهرات 18 و19 يناير، ما أجبر الرئيس المصري أنور السادات على التراجع وإلغاء الزيادة.
وليس استعداد "السترات الحمراء" لتظاهرات جديدة في تونس إلا تأكيدا جديدا لتكرار السياسات والقرارات نفسها في مقابل تشابه التطلعات والاحتياجات.
وكما أن الحكومات كلها مثل بعضها، فإن البشر هم أيضاً البشر أنفسهم في كل مكان، يطمحون إلى تحسين أحوالهم، حتى إن كانت جيدة. وما إن تتاح الفرصة، يلجأون لكل الأساليب والأدوات، بغض النظر عن أخلاقيتها وقانونيتها، فتسقط سريعا شعارات التحضر ومبادئ الديمقراطية المؤسسية، وقنوات التعبير والمشاركة المشروعة، إلى آخر مظاهر التحضر والتقدم التي يتباهى الغرب بها دائما. وينطبق هذا على الجانبين، السلطة والمجتمع، فالشرطة الفرنسية لم تتوان عن استخدام القوة لمنع انتشار التظاهرات ووقف المسيرات عن التمدد، فحاولت تقييد حرية المحتجين في التعبير، وبادرت إلى استخدام العنف، باعتبار أن إغلاق الشوارع وإطلاق الغاز كبت للحريات ونوع من العنف. بينما لجأ محتجون بدورهم إلى تحطيم واجهات متاجر ونهب بعضها وإحراق سيارات، في سلوك غير متوقع في أحد أعرق المجتمعات الأوروبية وأكثرها تحضرا. إذن، لم يختلف الفرنسيون، حكومة وشعبا، عن حكومات وشعوب الدولة الفقيرة أو المتخلفة حضاريا، إلا قليلا.