هربٌ ورفضٌ، دفعاني إلى بيروت، التي كنت متأخراً عنها، ولا زلت أشعر أنني أبطأ من أن ألحق بسيرها وسرعتها التي تزيل حاضرها لتدفنه في لحظة سائلة تكاد لا تنتهي. مع ذلك، كان بإمكان هذه اللحظة، الشبيهة بلهبٍ يرتجف ويعلو داخل إناءٍ من ماء، أن تتحوّل إلى بيت، وإلى رفقة جديدة.
جئت كي أجد حياتاً عادية قرب هذا اللهب، بحثت عنها لكنني حتى اليوم، بعد مضيّ قرابة السنتين، لم أجدها. ربما كان تصوّري عنها سبباً في اختفائها عنّي. ذلك أنّ الزيارات السابقة، السريعة والمبهجة، حوّلت المدينة في ذاكرتي إلى مزار، لا إلى حيّز لإقامة طويلة سرعان ما وجدت نفسي داخل عثراتها وحواجزها السرية التي تكاد تطبق على لهبها اللطيف.
كان الأصدقاء، الذين مضى كل واحد منهم إلى بلد، عائلتي القديمة، ولم يكن من مسافة لأيّ لقاءٍ أو موعد معهم، ذلك أنّ فائض الوقت في سورية السابقة على الثورة، كان بمثابة تعطيل مبكر لأيّ حساسية تجاه مرور الزمن. تعطيلٌ ساد واستمرّ وغدا أليفاً ألفة الوجه والبيت والشارع والكلمة، لكنّها ألفة حجبت عن الكلمة صوتها الحيّ، وعن الشارع صراخه، وعن البيت أمانه الطفولي.
اختلف الأمر هنا، إذ تحوّل مرور الزمن إلى قياس ملموس وتنازع خفيّ وتدارك متأخر، وباتت صحبة الأصدقاء القدامى جزءاً من ماضٍ أشبه بضباب ينمو وحيداً في مكان ناءٍ.
صار لي أصدقاء جدد هنا في مدينة تكاد لا ترى من بحرها شيئاً، كانوا من قبل صوراً في مخيلتي، فيما تحوّل القدماء منهم إلى علامات داخل لوحات تكاد تجعلهم أطيافاً. ثمة صلة ما، أثناء تناول الفطور، أو الحديث عن المدن التي سكنّاها من قبل، جعلت من البرهة هذه أقرب إلى حماية عائلية جديدة. صرت عندما أعود إلى حجرتي، التي تليها حجرتان أخريان، أفكر بصديقيّ الجديدين. ثمة مَن سيسألني: "أين كنت طوال النهار"؟ وثمة مَن سيطفئ المصباح، ويهمس: "تصبح على خير".
عشت داخل هاتين العبارتين، النسمتين، صباح مساء، كما لو كانتا عائلتي الجديدة، العائلة التي قدمها إليَّ صديقان عاشا معظم حياتهما بعيداً عن أعراف كلّ عائلة.
جئت كي أجد حياتاً عادية قرب هذا اللهب، بحثت عنها لكنني حتى اليوم، بعد مضيّ قرابة السنتين، لم أجدها. ربما كان تصوّري عنها سبباً في اختفائها عنّي. ذلك أنّ الزيارات السابقة، السريعة والمبهجة، حوّلت المدينة في ذاكرتي إلى مزار، لا إلى حيّز لإقامة طويلة سرعان ما وجدت نفسي داخل عثراتها وحواجزها السرية التي تكاد تطبق على لهبها اللطيف.
كان الأصدقاء، الذين مضى كل واحد منهم إلى بلد، عائلتي القديمة، ولم يكن من مسافة لأيّ لقاءٍ أو موعد معهم، ذلك أنّ فائض الوقت في سورية السابقة على الثورة، كان بمثابة تعطيل مبكر لأيّ حساسية تجاه مرور الزمن. تعطيلٌ ساد واستمرّ وغدا أليفاً ألفة الوجه والبيت والشارع والكلمة، لكنّها ألفة حجبت عن الكلمة صوتها الحيّ، وعن الشارع صراخه، وعن البيت أمانه الطفولي.
اختلف الأمر هنا، إذ تحوّل مرور الزمن إلى قياس ملموس وتنازع خفيّ وتدارك متأخر، وباتت صحبة الأصدقاء القدامى جزءاً من ماضٍ أشبه بضباب ينمو وحيداً في مكان ناءٍ.
صار لي أصدقاء جدد هنا في مدينة تكاد لا ترى من بحرها شيئاً، كانوا من قبل صوراً في مخيلتي، فيما تحوّل القدماء منهم إلى علامات داخل لوحات تكاد تجعلهم أطيافاً. ثمة صلة ما، أثناء تناول الفطور، أو الحديث عن المدن التي سكنّاها من قبل، جعلت من البرهة هذه أقرب إلى حماية عائلية جديدة. صرت عندما أعود إلى حجرتي، التي تليها حجرتان أخريان، أفكر بصديقيّ الجديدين. ثمة مَن سيسألني: "أين كنت طوال النهار"؟ وثمة مَن سيطفئ المصباح، ويهمس: "تصبح على خير".
عشت داخل هاتين العبارتين، النسمتين، صباح مساء، كما لو كانتا عائلتي الجديدة، العائلة التي قدمها إليَّ صديقان عاشا معظم حياتهما بعيداً عن أعراف كلّ عائلة.