قد تكون مشكلتي مع الحزن عقدة نفسية. لمَ لا؟ لا أحد يخلو من العقد. فلنعد إلى علم النفس الذي يعزو أصل المشكلة إلى الطفولة. أشعر بأنّ حادثة معينة شهدتها بأم العين هي من صنعت هذا العداء بيني وبين الحزن.
كنت في العاشرة من عمري. وكانت والدتي تجتمع مع قريباتها والجارات كل يوم سبت لمشاهدة فيلم مصري. لم أفهم لماذا تتّخذ معظم الأفلام طابع المأساة، كأنّها فنّ صناعة المأساة بكافّة أشكالها. يغلب الاعتقاد لدينا بأنّ الأفلام الهندية هي سيّدة الدراما البكائية. صدّقوني الأفلام المصرية حينها تفوّقت على بوليوود. الأفلام الهندية على الأقلّ تعرض رقصة ملوّنة قبل المشاهد التي تكثر فيها الدموع. لا رقص ولا ألوان في الأفلام المصرية التراجيدية..
حضرت جاراتنا وقريبات أمي. اجتمعنَ حول التلفاز، واتفقنَ على شريط فيديو لفيلم لا يمكن أن أنساه أبداً، فيلم "لا تبكي يا حبيب العمر". تدور قصة الفيلم حول طبيب جرّاح مشهور "فريد شوقي"، يجري عمليات صعبة تتكلّل بالنجاح دائماً. يصاب ابنه الوحيد "نور الشريف" بمرض، ويجبر والده على إجراء العملية له. يتردّد الطبيب المشهور قبل أن يجري العملية لابنه الذي يموت بين يديه.
منذ تلك اللحظة والفيلم عبارة عن نهر من الدموع. يبكي فريد شوقي طوال الفيلم مستعيداً الذكريات مع ابنه. كان الفيلم يعرض في مجلس بيتنا الذي ضاق بدموع النسوة وشهقاتهنّ. أمي تبكي، جارتنا أم حسّان تبكي، سلوى بنت الفاكهاني تبكي، وفلانة تبكي. أرسلتني والدتي إلى الدكّان لجلب علب محارم إضافية. تخيّلوا فقط مجلس عزاء من دون ميت. أذكر تماماً أنّ النسوة أحضرنَ "مي الزهر" لأم حسّان التي كاد أن يغمى عليها من شدّة البكاء.
أعلنت معاداة الحزن منذ تلك اللحظات. بدأت أضرب أي صديق لي يبكي. تخاف أختي من أصوات القذائف وتبكي، فأشدّها من شعرها. ينهرني والدي، فأضحك. منذ تلك اللحظة وأنا في حرب مع الحزن. أكره المطرب الحزين، الشاعر الحزين، الكاتب الحزين، مالك الحزين، أم عيون حزينة، حتّى الحيوانات الحزينة أكرهها.
نذهب وصديقتي إلى ملهى فيخرج مطرب ليغني عن "العذاب". أفتح صفحات الفيسبوك فأجد شعراءه بأغلبهم يتحدّثون عن "لوعة الحرمان". يكتب أحدهم عن الحارة الشعبية فيركّز على البؤس في العيون الحزينة. إذا لم تثر عواطفك العيون الحزينة يؤنّبك بمعلّقات طويلة عن شقاء الناس.
المتحرّشون بأغلبهم يعتمدون معاكسة الفتاة انطلاقاً من مقولة: أرى في عينيك حزناً. كل الطوائف اللبنانية تحكي عن "المظلومية"، حاربنا بعضنا البعض بسبب "المظلومية". والمظلومية بشكل ما عبارة عن ممارسة الحزن الجماعي.
خلف قفص الاتهام يقف السارق أو الجاني، يتصنّع الحزن أمام العدالة. تخيّلوا معي شكل "السارق الحزين". تعالوا ندخل عالم الفنانين والإعلاميين والزعماء حين يتصنّعون الحزن في القضايا الكبرى. كلّ طاغية يثور عليه شعبه يقدّم خطاباً مشحوناً بالعواطف، فيظهر بشكل "الحزين". وكما قال عادل إمام في إحدى مسرحياته: "ويا عيني عليه في الحزين".