حكواتي: موقوف بتهمة قتل غيفارا

24 أكتوبر 2014
الثائر أبداً... بعد موته (Getty)
+ الخط -

هذه المرّة حاول المدير أن يعطيه فرصة إضافية. أوكله بمهمة إعداد تقرير عن ذكرى اغتيال تشي غيفارا. كانت العلاقة قد توتّرت بينه وبين المدير العام للمحطة العربية الإخبارية بسبب تباين موقفيهما ممّا يجري في سورية.

رفض الصحافي أن يقارب الملفّ السوري من الزاوية التي انتهجتها المحطة. فاستبعدوه عن الملفّ العربي بشكل عام، وكلّفوه بتغطية أخبار المعارضة التايلندية والظاهرة النازية الجديدة في اليونان... وحتّى التدخّل الفرنسي في وسط أفريقيا.

"حسناً. أنت تحبّ الثورات والثوّار ولديك نفس اشتراكي وربّما شيوعي، فتفضّل أظهر ذلك في التقرير"، بتلك الجملة اختصر المدير العام المكالمة مغلقاً سمّاعة الهاتف الداخلي. وانطلق الصحافي في إعداد تقرير عن الثائر الأرجنتيني، وأرفق به صور جثمان تشي المُسجّى تحت بنادق أعدائه على وقع أغنية "غيفارا مات".

اعتمد الشاب، في مقاربة موضوع الذكرى، على الموت والرحيل بعيداً عن الـسطرة المُعتَمَدَة والشائعة بين شعارات العرب. وانتهى التقرير بعبارة: "مات غيفارا لأنّه إنسان قبل أن يكون أسطورة أو رمزاً معلّقاً على القمصان والـكواب". وتضمّن التقرير سرداً سريعاً لتاريخ الثائر اللاتيني.

صدّق رئيس التحرير على بثّ التقرير. دقائق بعد عرضه في النشرة الإخبارية رنّ جرس الهاتف الداخلي لمكتب الصحافي الشاب. بدا أنّ العصبية تمكّنت من المدير العام للقناة، إذ احتجّ الرجل بشدّة على مضمون التقرير. واعترض على بثّ صور جثّة غيفارا أوّلاً. عاد الرجل وسأل: أين فلسطين من التقرير؟ قضيتنا العربية يا أخي. وكرّر ذاك السؤال مرّتين على مسمع الصحافي. ثم لمّح المدير العام إلى أنّه كان يجب إجراء مقارنة بين ثورة غيفارا وتلك الثورات "السخيفة" في العالم العربي اليوم. الثورات التي تنتج تطرّفاً، بحسب قوله.

قبل أن يُغلِق سمّاعة الهاتف بعصبية قال المدير: "يا أخي هل تعلم ماذا فعلت؟ أنت قتلت غيفارا اليوم على الهواء مباشرة. للأسف أنت غير صالح لتلك التقارير". 

لم يغضب الصحافي كثيراً. فتح صندوق الرسائل الإلكترونية ليكتب ردّاً مفنّداً على اعتراض المدير العام. حاول صديقه ثنيه عن تلك الفعلة لكنّه أصرّ. فكانت الرسالة:

"جانب المدير العام...

لما كنّا نلنا الموافقة من المدير المباشر على بثّ التقرير، فإنّنا بالتالي تخطّينا بنجاح الشروط المهنية لبثّ التقرير. ولمّا كان التقرير يتضمّن ذكرى رحيل فكان لا بدّ لنا أن نركّز على موت غيفارا. كان التقرير ليختلف لو كانت ذكرى الثورة الكوبية أو ولادة الرجل حتّى، لكنّها ذكرى الاغتيال.

إن الاعتراض الذي سجّلته، أستاذَنا الكريم، تضمّن مواضيع بعيدة جدّاً عن ذكرى الاغتيال. إنّ ربط الموضوع بمعنى القضية الفلسطينية في نظر غيفارا هو استهلاك إنشائيّ. أعتذر عن التوصيف الثقيل لكنّه يذكّر بهؤلاء الشباب الذين يستحضرون الثائر المتوفى منذ عشرات السنين في أثناء القصف الإسرائيلي على غزّة مثلاً.

بالله عليك قلّي ماذا يريد "ماغ" مطبوع عليه صورة غيفارا من صواريخ إسرائيلية على القطاع؟".

لم يُكمل الرسالة، فجأة ضغط على زرّ delete. فسأله صديقه: "ماذا فعلت؟ أعُدتَ إلى صوابكَ؟". فلم يُجِب. ومضى يفكّر كيف سيواجه أهله. هل يدخل منزله محملّاً بأكياس الليمون والخضَر ويقول لزوجته: لقد قتلتُ غيفارا اليوم!

وصديقه؟ صديقه الذي يملأ الفايسبوك بصور تشي وكأنّه الخليفة الغيفاري السابع عشر والمتحدّث باسم ثوّار كوبا، ماذا سيقول لصديقه الخليفة الاشتراكي؟: أنا قتلت غيفارا!

عاد وفكّر أكثر بالموضوع. هل ستمحنه السفارة الكوبية فيزا سياحية؟ أساساً هو لم يفكّر بزيارة كوبا يوماً. هو يحبّ دولاً مثل السويد والنرويج وفنلندا. لكن لمَ؟ عاد ليسأل نفسه.

إستيقظ ليلاً من النوم على صوت المدير العام: أنتَ قتلت غيفارا!

شرب المياه وبلّل رأسه. فجأة شعر بزوجته تضع يدها على رأسه وتهمس: بسم الله الرحمن الرحيم... اسم الله عليك اسم الله عليك... كابوس أليس كذلك؟

أجابها: بصراحة لقد قتلتُ غيفارا. قتلتُ غيفارا. أتفهمين؟ أنا قتلتُ غيفارا.

ضحكت الزوجة وضحك أطفاله وضحكت ابنته الكبرى بشدّة وقالت: بابا، غيفارا مات عام 1967. مات... 

فابتسم الرجل وعاد إلى النوم مدركاً أنّ هناك من سيدرك أهمية تقريره الإخباري. وابنته خير مثال على ذلك. 

المساهمون