حكواتي: ما لا يُنسَى

11 سبتمبر 2014
اتّفقنا الالتقاء على شاطئ البحر (Getty)
+ الخط -
ما إن أعلن وقف إطلاق النّار حتّى سارعتُ مع أولادي إلى وضع قائمة بأسماء الأشخاص الذين نريد الاتصال بهم والاطمئنان إليهم. وكنتُ قد توقّفت عن الاتصال بأحد في الأيام الأخيرة من الحرب، خوفاً من أن يفاجئني بخبرٍ غير سار أو ألا يردّ هو شخصياً على الهاتف، بمعنى أنّه قد أصبح شهيداً أو جريحاً.

أمام القائمة، وقفتُ حائرة من أين أبدأ، لكنّني قرّرت الالتقاء بصديقات وجارات في أرض محايدة، أقصد بعيداً عن البيوت التي كنّا مسجونين داخلها لمدّة شهرين تقريباً. فكلّ واحدة كانت تردّ: "مشتاقة أشوفك بسّ مش في بيتك ولا بيتي". والتقينا على شاطئ البحر بعد أن أمضيتُ ساعات مع أولادي.

ضربتُ لهنّ موعداً متأخّراً قليلًا، فقدمن على دفعات، والنتيجة أنّنا أصبحنا حشداً نسوياً من أعمار متقاربة. وبدأنا، بعد التّحيات والقبلات والعناق والدموع، بالحديث عن الذكريات المُحزِنة والمُفرِحة والمواقف الطريفة التي مررنا بها أثناء الحرب. وكانت كلّ قصصنا متقاربة ومتشابهة. فجميعنا عشنا الظروف نفسها وعانينا من مشاعر الخوف والأمل والرّجاء بأن ينتهي، في الصباح، هذا الكابوس. كلّ واحدة من صديقاتي بدأت تتحدّث عن الأعمال المتأخّرة في بيتها، التي يجب عليها إنجازها. فقد كنت أنا على سبيل المثال لا أمتلك القدرة على الحركة في البيت. فكنت أقوم بالتنظيف السطحي لأنّني طوال الوقت مشغولة بمتابعة الأخبار والهرب والبكاء ومواساة الصغار.

اتّفقنا ضاحكاتٍ على أمر واحد، أنّ كلّ واحدة قد "نقعت نفسها" في البانيو لساعات. فمع شحّ المياه والخوف من حدوث القصف والغارات أثناء وجودنا في الحمّام، لم يكن يُسمح لنا، كنساء خصوصاً، بالحصول على حمّام لمدّة طويلة. فنحن النساء نحتاج إلى العناية بالشعر والجسم والقدمين والأكواع. وكلّ هذا يستغرق وقتاً. فهناك حمام الزيت للشعر و"الماسكات" وغيرها، وقالت إحداهنّ ضاحكة: "والله كنت بدّي حجر خفاف أدعك فيه جسمي بدلاً من الصابون والشامبو". وأنا في داخلي كنتُ أشعر بأنّنا كنّا أحسن حالاً من النساء اللواتي قبعن في مدارس الإيواء. فنحن على الأقلّ لم نترك بيوتنا.

وضحكت أخرى وأقسَمَت أنّ هناك أزمة صابون وشامبو ستحدث في البلد حتماً مع إقبال الناس على الاستحمام. وأكّدت ثالثة أنّها تريد إزالة آثار الحرب عن جسمها. فهي تعتقد أنّ الحرب تترك آثاراً غير مرئية على أجساد النّساء.

أما صديقاتي الأمهات لأطفال صغار، فكان الحديث، مع الضحك، عن لعب الصغار في الحمام و"البلبطة" في البانيوهات لساعات طويلة. وبدأن يقارنّ بين الحال الآن وبين حمّام الصغار أيّام الحرب. فقد كان كلّ واحد ينال حماماً سريعاً وصغيراً منطبقاً عليه المثل المصري: "إلهي يا ربّ يحمّوك في كنكة". وبالفعل فقد كانت حمّامات الصغار، بحسب وصف أمّهاتهنّ، عبارة عن "الجردل والكنكة والطشت". وهي من معالم الأفلام القديمة التي عشقناها والتي لم نكن نتخيّل أنّ صغارنا سوف يمرون بتجربتها.

ذكرت صديقتي طفلها الذي ضحك كثيراً حين رأى الطفل الذي قام بدور طه حسين صغيراً، عندما كانت جدّته تغسل جسمه وهو داخل الطشت وترشّ جسده بماء تسكبه من "الكنكة". لكنّ طفلها مرّ في الموقف نفسه، وقال لأمّه: "ماما بطّلت أتفرّج على أفلام زمان، خايف يكون فيه حمام أصعب من هيك. حمّام أيّام زمان. ولمّا أتفرّج عليه يصير معي نفس الشي...". يا ترى كيف كان أهل زمان وقبل "الجردل والكنكة والطشت" يحصلون على حمّامهم؟ هكذا تساءلتُ أنا وصديقاتي المنتعشات اللواتي تفوح من أجسادهنّ رائحة الشامبوهات والمنظّفات والبارفانات، وتفوح أكثر رائحة السعادة وراحة البال والأمل بغد أفضل لهنّ ولأطفالهنّ، ولسان حالهنّ يقول: هنيئاً لك يا غزّة الأمان...
المساهمون