حكواتي: في مديح النافذة

04 يوليو 2014
نوافذ بيوت مدينة السلط التراثية في الأردن
+ الخط -
لنافذة البيوت حكايات عتيقة تعود إلى زمن قديم قديم. زمن كانت النافذة تعني الحياة.

بعض هذه الحكايات يُروَى وبعضها لا يزال حبيسا في الأدراج أو في صدور أصحابه وقلوبهم، أصحابه الذين ما عادوا بيننا اليوم!

منها استقدم العالم أشياءه وكائناته وشخوصه وأغنياته وأفراحه وأحزانه. فكم من روائي، ذات فجر، يهمّ بالكتابة وطاولته أمام نافذة مشرّعة؟

أمامها يبدو المتخيَّل واقعا ملموسا كما يتحسَس الواحد منّا جبينه بأصابعه، ويصير البعيد قريبا، والقريب يصير بعيدا، والكاتب لا يزال يرنو إلى العالم من وراء نافذته، فيخطّ سطره الأوّل.

من خلالها أطلق عصافير قصائدي، وأنثر طيب نثري كما لم يكتب من قبلي أحد، فتصبح الحارة كلها، ببيوتها وناسها وكنائسها ومساجدها، وأغنياتها، طوع قلمي. إلى أن أرى المدينة وقد سكنت نبضي كما نثري. فأرى "كفافي" في دارته بالإسكندرية، وأدعوه إلى فنجان قهوة أعدّها في بيتي، وأتلو أمامه قصائده التي حفظتها قبل أن يقول كلمة واحدة.

وتقول الفتاة التي "لا تعمل"، ويسكن حبيبها في بداية الحارة، وهي تهمّ بفتح النافذة وتزيح ستارتها، والنعاس ما يزال عالقا بين عينيها: سيمرّ من هنا بعد قليل، لا بدّ أن يمرّ، سيرفع أصابع يديه اليمنى نحو شعره، ليقول: حبيبتي صباح الخير. فتسارع إلى إصلاح زينتها وفرد شعرها الأسود الطويل، وتحضر دلوا صغيرا فيه ماء وممسحة قماشية صغيرة لتوهم من حولها بأنّها تنظّف النافذة المشرّعة للتوّ.

نافذة للروح، وأخرى للقلب، ونافذتان متلاصقتان أو متقابلتان، وثلاث نوافذ للعائلة الكبيرة، وهي تستمع إلى تكبيرات صلاة العيد الكبير، أو وهي تودّع مسافرا أو تنتظر من غاب طويلا.. وعاد. أو ليجتمع "الشباب" حولها ذات سهرة عامرة "بالأراجيل" فيذهب دخانها نحو الخارج ولا يستقرّ في البيت.

تجيء النافذة بالمدينة، بناسها الذاهبين فجرا نحو التقاط قوت يومهم، وأولئك الذين يظلّون ساهرين حتّى ساعة متأخرة، أو حتّى مطلع الفجر.

إلا أنّ النافذة تبدو اليوم حزينة وشاحبة ومهملة بعدما غاب أهلها وأوغلوا في الغياب حينا أو الهجر والرحيل نحو بيوت أخرى حينا آخر. فبقيت النافذة مغلقة يملأ الغبار قضبانها العتيقة... فتبكي بصمت.
 
  • النوافذ: عن نوافذ بيوت مدينة السلط التراثية، التي تعود إلى العام 1889 وتتميّز بجمالية معمارية خاصّة.

 

 

 

 

 

دلالات
المساهمون