حكواتي: عزيزتي العمّة نجيبة.. أحبّك كثيراً

17 نوفمبر 2014
اقتنعت العمة نجيبة أنّها في العاشرة من العمر (Getty)
+ الخط -
تنحصر ذكريات جميع السكّان مع العمّة نجيبة في فصل الشتاء فقط وفي الموسم الدراسي تحديداً. تستيقظ العمة نجيبة في صباحات الشتاء الباردة. ترتدي تنانيرها الملوّنة. تجهز زوّادتها في حقيبتها الصغيرة. تضع في الحقيبة سندويشاً من الزعتر وتفاحة صغيرة، ترتدي معطفها الرمادي، وتنطلق إلى المدرسة.

كانت العمة نجيبة تتنقل في مناطق البقاع الغربي، تقصد المدرسة في بلدة غزة هذا الأسبوع، بلدة المرج في الأسبوع الذي يليه، وبلدة حوش الحريمة بعده. لا تقصد العمة سوى مدارس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، ولم توصد أي من المدارس الباب في وجهها يوماً.


تجلس العمة نجيبة مع الطلاب الذين لا يتعدون العاشرة من أعمارهم في الصف. تغنّي معهم. تردّد الأحرف والكلمات من وراء الأساتذة. تتهجّى الحروف، وتطلب من زميلها أن "يغششها" الأجوبة.

تستصعب حفظ جدول الضرب. تعطيها المعلمة قصاصاً. تختلف مع الولد الصغير علی المقعد الأمامي. تبكي إذا مزّق أحدهم رسمتها التي ألصقتها علی الجدار. في حصّة الرسم، تلجأ العمّة دائماً إلى رسم عروس وعريس وبيت صغير بسقف قرميدي. لا تغيّر الرسمة أبداً.

تتشارك الطعام مع زملاء صفها، تخبرهم قصصاً كثيرة، لا يعرفون كيف يمكن لفتاة في العاشرة أن تعرف كل تلك القصص، تلعب معهم أثناء الفرصة، تختفي فجأة، يجدونها علی الطرف الآخر من الملعب، تجلس وحيدة، وتدخن سيجارتها، لا يفهمون أيضاً كيف يمكن لطفلة في العاشرة أن تدخن وتفلت من العقاب.

أحبوها جميعهم، أحبها الطلاب والأساتذة، عاشت العمة نجيبة كل الأعمار في وقت واحد. كان الجميع على يقين تام أنّها في العاشرة من عمرها. قد يظن البعض أنهم كانوا يسايرونها، أو يتماشون معها، لا. اقتنعت العمة نجيبة أنّها في العاشرة من العمر، وأقنعت الجميع معها، أكّدت لهم أنّها تستطيع البقاء طفلة إلی الأبد.

كان الأولاد يشتاقون إليها، يكتبون لها الرسائل عندما تطيل الغيبة، يصرّون على إعطائها الرسائل عندما تعود إلى رؤيتهم، كانت جميع الرسائل مختصرة. "عزيزتي العمة نجيبة.. أحبك كثيراً". ويتوسط الصفحة رسم قلب. تأخذ العمة نجيبة الرسائل عندما تعود، وتبكي. يتحلّق الأطفال جميعهم حولها، ويبكون أيضاً. يقف الأساتذة علی شبابيكهم ينظرون إلی الملعب، ولا يستطيعون كبت دموعهم. سيدة في الخمسينيات من عمرها تحمل رسائل كثيرة. يتحلّق حولها عشرة أطفال لم يتعدوا العاشرة من عمرهم، يغمرونها، يغمرون بعضهم بعضاً، ويبكون جميعاً.

كانت العمة نجيبة تعود في اليوم التالي حاملة كرتونة كبيرة ملوّنة، كتبت علی الكرتونة بخطها الدقيق "أحبكم جميعاً"، ورسمت قلباً كبيراً في الوسط، تخبر زملاء الصف أنّها لم تنم الليلة الماضية حتى ما بعد منتصف الليل وهي ترسم. يسألونها أين أهلها؟ وكيف يسمحون لها بالسهر إلی هذه الساعة المتأخرة؟ تضحك المعلمة التي تسمعهم. ترفع نجيبة رأسها نحو السماء، وتقول لهم: "راحوا لفوق".

دهست إحدى السيارات العمة نجيبة وهي في طريقها إلى المدرسة، ماتت على الفور، خاف السائق عندما وجد حقيبتها الصغيرة وكرتونة ملوّنة مرسوم عليها صورة عروس وعريس ومنزل قرميد.

تجمّع الأهالي حول السائق لحظة وقوع الحادث. قال لهم إنّه دهس فتاة صغيرة وهي في طريقها إلى المدرسة. ماتت العمة نجيبة وهي في العاشرة من عمرها، تماماً، كما أرادت. توفي والداها وهي في العاشرة أيضاً، ولم تكبر هي منذ تلك الفترة. لحقت بهم سريعاً. ماتت وهي في العاشرة أيضاً.

علم التلاميذ الصغار بموت زميلتهم. فهموا يومها معنى جملتها "راحوا لفوق". حضر عشرات الأطفال الصغار مراسم تشييعها. شيّع الأطفال العمة نجيبة التي لم تتعد العاشرة.
دلالات
المساهمون