حكواتي: صباحٌ صينيّ على الإذاعة السوريّة

13 ديسمبر 2014
حكواتي: صباحٌ صينيّ على الإذاعة السوريّة
+ الخط -
سمعت في المدرسة أوّل أغنية عبر الراديو، حيث نُصبَت إذاعة، كانت في حقيقتها مكبّر صوت لا غير. وكما كان حال كثيرين من أقراني، ممن ولدوا أواسط السبعينيات من القرن الفائت في شمال شرقي سورية، كان الراديو هو هذه الإذاعة المدرسيّة. أغنيات من قبيل "من قاسيون أطلّ يا وطني/ أرى دمشق تعانق السُّحُبا/ آذار يدرجُ في مرابعه/ والبعثُ ينشر من فوقه الشُّهبا!"، شكّلت أول صلة لي مع صوت الأثير.

حينها لم نكن نسمع سوى الأغاني المدرسية التي كانت في الحقيقة أناشيد حزبية جرى تأليفها وتلحينها على هوى ومشيئة السلطة الحاكمة. كان مدير المدرسة، في ذلك الوقت، هو المذيع الأوّل، وكان شعار حزب البعث المشهور هو تحية الصباح العسكرية الإجبارية والوحيدة الممكنة: "أمّة عربيّة واحدة ذات رسالة خالدة"، نردّدها كلنا معاً خلف إيعاز المدير، ثم تليها عادة أناشيد حماسية قوميّة تعلو وسط باحة المدرسة، حيث تفوح رائحة معارك خالدة وانتصارات مجيدة، رسخت، لكثرة ما تكررت، الصلة الأولى مع ماضٍ، كان أوسع وأعقد من أن ندرك تشعباته وتعقيداته.

عندما صار لي راديو خاص بي، بُعيد انتقالي إلى الصف السابع ثم راديو أكبر في المرحلة الثانوية، أصبح بإمكاني أن أتنقل عبر الأثير كما يقال بين الإذاعات شرقاً وغرباً، لكن الصباح بقي حكراً على إذاعة دمشق التي بقيت مثالية، موضوعيّة، حتّى أن التفكير بمدى موضوعيّتها كان ضرباً من الخيال الجاحد!

كانت برامج الفترة الصباحيّة على إذاعة دمشق، على مدى عقود طويلة وثقيلة، مثالاً على نموذج حالم وغريب في آن واحد! نموذج جمع بين الثبات الجامد حيث تتكرر وتُعاد يوماً بعد آخر عبارات بذاتها من جهة، والكمال المرغوب الذي لا يمكن لأحد أن ينافسه في شيء، من جهة مقابلة.

إذاعة دمشق الرسمية نموذج لا يختلف عليه إثنان، طالما كان صوتها قادماً من عالم لا صلة له مع ما يحدث للمستمعين، الذين يفترض بأي إذاعة رسمية أن تكون ناقلاً لصوتهم العام وأخبارهم الجارية على وقع حياة، نازُعها الأساسيّ التنوع والاختلاف، التجدد والمنافسة، الطموح وحتى الفشل.

ما من خبر محليّ مزعج يمسّ حياة السوريين كما كانوا يعيشونها حقيقة. لم تكن الحقيقة هي التي تقف وراء أثير الإذاعة السورية، لا الحقيقة ولا الخلاف حولها، ذلك أن صوتاً واحداً لا يمكن أن يأخذك سوى إلى جهل مقيم، حتى إن ظلّ يكرر الحقيقة، مجردة عن اختلاطها مع الواقع، للمرة الألف.

يبدأ الصباح مشرقاً ملؤه التفاؤل والنشاط. كان الإشراق أمراً واضحاً وغير قابل للشك، لا سيما أن صوت المذيع أو المذيعة يتماوج مع معاني الكلمات التي سبق أن روقبت ودُقّقت وسُمِح ببثها مباشرة. كل شيء يسير على ما يرام، كل شيء يدعو إلى البهجة، أو كما كانت تقول المذيعة عادة "صباح الخير، صباح الأمل.. الخ".

مثل هكذا ميل إعلاميّ، مراقب من قبل السلطة على نحو دائم، كان يناسب عالمَ الوعظ والإرشاد، ولم يخرج عنهما. كنّا نتلقى الدروس كما يجب أن تكون، لا كما نود أن نسمع، فثمة حقيقة ثابتة يجب نقلها إلى مستمعين جاهلين.

الأجيال التي تابعت الإذاعة على ذلك النحو تحولت متابعتها إلى نوع من تلقي الصوت من دون التفكير في مضمونه ولا في أثره اليومي الذي اكتسب مع التكرار قوة حجرية وطاقة مدخرة وجاهزة، فقد كان المضمون الإذاعي فوق أن يجابَه بأيَ نقد أو يتعرض إلى سخرية، خصوصاً أنه لم تكن هناك أي صوت إذاعي ينافس الراديو الرسمي الذي احتكر ممرات الأثير على كامل الأراضي السورية، وهذا ربما كان السبب الذي جعل أبناء السبعينيات والثمانينيات من القرن الفائت يوجهون آذانهم نحو إذاعة مونتي كارلو وبي بي سي عربي، لما فيهما من خفة ورشاقة وأخبار جديدة، يمكن على الأقل الثقة بمهنية العاملين فيها وخبرتهم.

لقد كان نموذج المدرسة الصارمة هي الوجه الأقرب إلى حال الإذاعة السورية، إذ يأخذ المذيع دور الأستاذ، فمن يتحكم بالصوت ينتج المعنى، فيما ينتظر المستمعون والمتابعون دورهم في طابور أقرب إلى حال تلامذة صغار مدهوشين، ومجبرين على التعود على الأمل، والتفاؤل، ولو كان مصدره الصين، لا سورية ولا دمشق.
المساهمون