حكواتي: تركتُ حياتي عند جلادي... وحملت مفاتيح الغصّة

31 مايو 2014
المساكن غصّة النازحين والهاربين (Getty)
+ الخط -

في الأربعين من عمري، ومع أجواء الحداد القسري التي فرضتها وفاة قائد الأبد، انتبهت إلى أنّني لا أملك سوى جهاز الكمبيوتر، ومجموعة كبيرة من الكتب والقواميس اشتريتها، أو أُهديت لي، كي أكتب عنها. ولاحظت أنّ كرم عشاقي الكثر اقتصر على عبارات الغزل، وفرسان أحلامي أغدقوا عليّ بالخيبات. حينها اتخذت قراري المصيري الخطير، أن أغلق بابي على نفسي، وأتفرّغ بكليتي للعمل، حتى أشتري منزلاً لي. وكان القرار أقرب إلى المستحيلات، منه إلى الواقع، بالنظر إلى دخلي المتواضع.

سعيتُ مثل كلاب الشوارع وراء حلمي، وبعد عامين اشتريتُ بيتي الأول بربع مليون (خمسة آلاف دولار) في عشوائيات "جرمانا". كان  على الأرض والعظم، مساحته أقلّ من أربعين متراً مربعاً، أشبه بقنّ الدجاج، بارد، رطب، معتم، ويقابل معملاً لقصّ البلاط. عشتُ فيه خمس سنين، أكدح بلا راحة، حتى أصلحته وفرشته، وسدّدتُ ديوني وقروضي، وأُصبت بالتهاب المفاصل، الذي سيلازمني مدى الحياة، لكني استطعت أن أحوّل داخله إلى أجمل استوديو في المنطقة، وشاءت الظروف أن دخل المنزل في المخطط التنظيمي للبلدية، وبذلك ارتفع سعره إلى ستة أضعاف ما كان عليه.

ضربة الحظ لا تُفوّتْ، وعرضتُ منزلي فوراً للبيع، وجاءتني الضربة الثانية، حين اقترحتْ امي أن تستثمره، مقابل أن تشتري لي بيتاً قريباً من سكنها في "مشروع دمّر"، وامتلكتُ مفاتيح بيتي الثاني بمليونين ونصف (خمسة وعشرين ألف دولار) في مجمّع سكني حديث بمنطقة قدسيّا، يفصل بين مرتفع "مساكن الحرس الجمهوري" من العلويين، ومنخفض مساكن السّنّة المحافظين في البلدة القديمة.

بيتي في الدور الرابع، تقابله شقتان، وتجاوره الثالثة، وتنبسط أمام بابه الخشبي أرضية واسعة من الرخام، مساحته سبعون متراً مربعاً، كسوته جيدة، إطلالته جميلة، تزوره الشمس بانتظام، وتقرع نوافذه الكبيرة حبات المطر، أثثته بما يليق به على مدى سنتين، وما إن انتهيت بوضع مكيّف غرفة النوم، وتسديد كل أقساطي، حتى اندلعت الثورة السورية، وشعرت بأنّ كل أحلامي تحقّقتْ دفعة واحدة.

في مسكني الجديد انتظرتُ النصر، أراقب التظاهرات في ساحة قدسيا القديمة، إضراب بعض المحالّ التجارية في شارعها العام، وأسمع أخبار تغلغل الثوّار، وتصفية "العواينيّة". لم يُخيّل لي أنّ قمع الثورة سيصل حدّ تدمير البلد فوق رؤوسنا، وأن المجتمع الدولي، سيتركنا عزّلاً نواجه مصيرنا الأسود، ولم أتخيل أن مفارز الأمن سنتتشر على مداخل منطقتي وتغلقها، وأن التجمّع السكني الحديث، سيغدو خط التماس بين حرسّ النظام وجند الجيش الحرّ.

لا أنسى حين هاتفتني ابنة خالي في ذاك المساء الأغبر، وسألتني مستهجنة: "شو عم تساوي ببيتك؟ رح تعلق بعد شوي". وضعت السمّاعة من يدي، أزحت الستارة، كانت أنوار الجيران مطفأة ونوافذهم موصدة. كيف استغرقتُ في الكتابة، حتى أنّني لم أسمع صوت المآذن تنادي لخروج الأهالي من قدسيا.

اتصلت بسائق تاكسي أثق به، قال: جميع الطرق مغلقة والتجوال ممنوع، "بس يسمحوا بالحركة بيجي". خرجت إلى شرفتي أستطلع الشارع، لمحني جندي نظامي، وأطلق النار في الهواء. دخلت هلعة، ارتديت ملابسي على عجل، وضعت حاجاتي في حقيبة صغيرة، وركنتها عند الباب، أنزلت الأباجور، أطفأت الأنوار عدا المدخل، أدرت التلفزيون، كتمّتُ صوته، وجلست أقرأ شريط "الجزيرة" وأدخّن. 

انطفأت الكهرباء في غير موعدها، وهذا يعني أن المداهمات الأمنية بدأت، بعدها أخذ القصف يدوّي في أذنيّ، قريب إلى درجة أنّ الأرض تهتز من تحتي، أو أنني أهتز من ذعري. تلمّستْ يدي العتمة، وقادتني إلى بابي. تكومّتُ على الأرض ساعات قرب حقيبتي، ولم تهدأ راجمات الصواريخ والطائرات. لم تكن المرّة الأولى التي تُقصف فيها قدّسيا، لكنها كانت بداية معركة تكسير العظام.

كل صور الاغتصاب والتعذيب جالت في رأسي، أُصبت بالإسهال والغثيان والنزيف، وكنت أرتعد خوفاً، حتّى من الحركة والأصوات التي تصدر عني. أحسستُ أنّ القتلى يسقطون في قلبي، الجنازات تمشي على جسدي. بكيتُ الأمهات السوريات، وشكرت الله أنّني لم أُنجِب. هرمتُ مئة عام، ولا أدري متى توقّف إطلاق النار مؤقتاً، وخرجت سالمة إلى أمي.

رجعت إلى قدسيا أثناء الهدنة، الشارع العام في البلدة القديمة أضحى أثراً بعد عين، الحديقة صارت مقبرة جماعية، أبنية مهدّمة، وأخرى محروقة ومثقوبة بالرصاص. صعدت أدراج بنايتي المهجورة، فتحت منزلي، ودخلته آخر مرّة قبل عامين، لم يصبه الأذى، ولم يُنهب بعد، صوّرته بهاتفي النقّال. ألقيتُ نظرة الوداع على ركن الكتابة، سرير الوحدة، تركت حياتي عند جلادي ونزحت، مثلي مثل تسعة ملايين سوري، لا نملك غير مفاتيح غصّتنا.

 

 

 

المساهمون