حكواتي: الكرد أخوال الأرمن

09 ديسمبر 2014
ثمة رابطاً ثقافياً وعاطفياً بين الكردية والتركية (Getty)
+ الخط -
دُهشت من نفسي كثيراً وأنا أغادر محل بيع السجائر، مرتبكة قليلاً: ما الذي دعاني للرد على بائعة السجائر، بالتركية؟
عشر سنوات في فرنسا، وسنوات من الجيرة مع صاحبة المقهى الصغير في الزاوية المقابلة للمخبز، حيث اعتدت يومياً المرور لرؤيتها أولاً، ثم قطع الشارع ببضع خطوات، وشراء الخبز.
مع خالد، غالباً، ألقي التحية بالعربية، وأزحلق كلمة عربية ما، خفيفة، مألوفة، رائجة، على وزن شكراً، الحمد لله.. حيث يستمتع خالد بالتحدث بالعربية، تلك التي لا يجيدها، أو يجيد بعضاً من اللكنة المغربية المختلفة كثيراً عن الشرقية التي أتحدث بها، أو الأدبية كما يصفونها، السورية. لن أدهش إذاً حين أتحدث إلى خالد بالعربية، وقد أشعر بالارتباك إن تحدثت بالعربية إلى بائعة السجائر، الفرنسية العجوز، التي تعيد العبارات خلفي للتأكد من حُسن سماع طلبي" كاميل بلو"!، إلّا أنّ حديثي بالتركية أدهشني وأربكني، من أين جاءت هذه اللغة، وكيف اقتحمتني فجأة في باريس؟
رحت أراجع نفسي، جاري صاحب المطعم التركي، من مدينة مرعش، نتحدث بالكردية من حين لآخر، حتى لو تحدثت إليه بالتركية، لكان الأمر عادياً، أما التركية مع صاحبة السجائر، فلا يزال الأمر مدهشاً بالنسبة لي.
حين كنت صغيرة، كان أبي يسمع الأغاني التركية، ولا أعرف ولع الكرد بالأغاني التركية، كأنّ ثمة رابطاً ثقافياً أو عاطفياً بين اللغتين: الكردية والتركية.
كنت أشعر بالفخر بأبي، وهو يتحدث لغات لا أفهمها، وأحسّ بأنني ابنة رجل قوي ومثقّف، فهو يتحدث بالتركية والكردية، بل والأرمنية. كان يبتسم بمكر، ابتسامة بين الزهو والتهكم، كلما سألته: من أين تعلمت التحدث بهذه اللغات وأنت لم تدخل إلى المدرسة يوماً؟ أحاول أن أستعيد هذه المشاهد مع أبي، لأتأكد من مدى معرفته باللغات، ربما كان يرمي ببعض الكلمات، كما رميت أنا بجملة تركية صغيرة، دون أن يعني هذا، أننا، أبي أو أنا، عباقرة لغة! لا أعرف فعلاً حجم معرفته اللغوية، لكني أعرف أنه كان يثرثر لساعات مع مصلّح الساعات الأرمني في حلب، والذي يجب أن يُدعى دائماً "أبو آغوب" وكأن الأرمن في حلب، لا يملكون سوى هذا الاسم، أم أننا، نحن الذين نستسهل الأسماء، فندعو كل أرمني، بـ آغوب، أو أبو آغوب!
كان أبي يخدعني ربما، أو أنّه كان مقتنعاً بأن الأرمنية تشبه الكردية، كما تشبه التركية الكردية، ويكرر على مسامعي المقولة السائدة بين الأرمن والكرد: الكرد أخوال الأرمن!
بعد أقل من عشر سنوات في فرنسا، حدث هذا منذ عامين تقريباً، بدلاً من أن أذهب إلى سورية لرؤية أهلي، ذهبت إلى تركيا.
لم ألتقِ بأبي منذ مغادرتي لسورية، ومات هناك.. إلّا أنّ أمي أتت إليّ، لا في فرنسا بلدي الذي أقيم فيه، وأحمل جنسيته، ولا ذهبتُ إليها إلى بلدنا الأم كما ندعوه، بل التقينا لدى الأتراك... حسناً، ها أنا أقبض على سر ارتباكي اللغوي.
هل كنت وأنا أردّ على بائعة السجائر بالتركية، أعني في عمقي، أنني أردّ بالسورية؟ إذ إن "سوريّتي" صارت في تركيا، وصارت سورية التي عرفتها قبل عشر سنوات، بمثابة حلم يستحيل التحقق!
هل كنت أدافع عن سورية في داخلي، فتحدثت بالتركية، بينما أقصد العربية الخاصة، لا تلك العربية الشائعة التي يعرفها كل العرب، بل العربية التي يعرفها فقط أبي الكردي، الذي يخطئ بين المذكر والمؤنث بالعربية، ويرطن بالأرمنية والتركية! تلك عربية العائلة، عربية مطرّزة بأخطاء تجعل النطق ساحراً. ابن عمي، حصل على شهادات عليا في جامعات خارج سورية، وحصل على منصب رفيع في هيئة تعليمية، لا يزال يخلط بين التذكير والتأنيث، حين يتحدث بالعربية.
العربية الكردية لغة جديدة، اللغة الشفهية التي يتحدث بها الكرد، إلّا أنّ الشعراء والأدباء الكرد، حين جاؤوا ليبدعوا بالعربية، أبدعوا! أمّا أنا، فلا أزال أسير في شوارع باريس، أسمع الأغاني التركية، وأتذكر أبي، من إبراهيم تاتليس إلى أحمد قايا، أنسى أنّها موسيقى تركية، ليست كردية ولا سورية، وبالتأكيد ليست فرنسية، فأنسى بالتالي، أن أردّ على بائعة السجائر بالفرنسية، وأفعل، بالتركية، وقد أردّ عليها في المرة المقبلة، بالكردية!
المساهمون