حكواتي: السندباد البحري والبرّي!

12 أكتوبر 2014
السندباد البحري هو نقيض السندباد البري (Getty)
+ الخط -

بدأت تجربتي بالتجوّل وزيارة المناطق في بلادي منذ الطفولة. إذ إنّ أبي، على الرغم من عدم امتلاكه سيارة، كان يأخذنا في جولات سياحية في أنحاء الوطن بكل وسائل المواصلات المتاحة، مثل القطار، والسفينة، والباص أو مشياً على الأقدام. وكان يقدم لنا شرحا عن كل موقع وعن تاريخ كل مدينة وقرية قبل حرب 48 .

رافقني حب التجوّل حتى في "شهر العسل"؛ إذ قمت أنا وزوجي بجولة لمدة شهر كامل في أرجاء بلادنا طولاً وعرضاً. زرنا مواقع تاريخية وجغرافية مميّزة جعلت أيامنا أجمل ممّا هي عليه. وعندما رُزقنا بأطفالنا الثلاثة واظبنا على تقليد التجوّل في أرض الوطن وزرنا معهم أهم المواقع، وزرنا لاحقاً مصر والأردن وعدة دول أوروبية.

في بداية مشواري كباحثة في أدب الأطفال، كانت أول زيارة مهنية لي عام 1994 إلى إسبانيا، ولاحقا إلى هولندا واليابان ومصر. ومنذ عام 2002 ومع احترافي لفن "الحكواتي"، بدأ سفري للمشاركة كحكواتية في ورشات ومهرجانات وعروض في كل من بريطانيا، ومصر، وتونس، والمغرب، والشارقة، والأردن، والبحرين، وفرنسا، وجنوب أفريقيا، وبالطبع في أرجاء بلادي فلسطين، ليصبح السفر ضرورة حياتية روحية بحتة. إذ صار السفر ولقاء الناس والحكواتيين في أنحاء العالم من أهم الوسائل لتطوير مهاراتي الشخصية والإنسانية والفنية في مجال "الحكواتي"، والأهم في تطوير مناعة روحي في التعامل مع وجع الحياة. أعترف بأنّي استطعت الجمع بين السندباد البحري وروح المغامرة إلى جانب استقرار السندباد البري الذي وفّره لي شريك حياتي وأولادي. أعرف أن الجمع بين النقيضيْن شبه مستحيل، لكنّي ما زلت أحاول التوازن فيما بينهما.

فالسندباد البحري هو نقيض السندباد البري، هو المغامرة وضدّ الاستقرار. فمنذ فجر التاريخ، كانت هذه المعادلة، وكانت الأغلبية من الناس تختار الاستقرار، مقابل الأقليّة التي اختارت السفر كمنهجية حياة. كانت أسباب السفر تختلف بحسب الوقت.

ما قبل الحداثة: كان للسفر أو التجوال وظيفة محدّدة في ذلك الوقت. وغالباً ما تكون مهنة التجارة كالسندباد البحري، أو الوظيفة الدينية وهي نموذج من ثقافتنا كابن بطوطة الذي سافر من فاس ليحج في مكّة، ووصف سفره وما صادفه من بلدان وطرائف في كتبه المختلفة.

في زمن الحداثة والوعي لضرورة الفصل بين الذات الإلهية والذات الإنسانية: أصبح الهدف من التجوال والسفر بناء الهوية الشخصية، من خلال التعرف على عوالم أخرى مختلفة. فنرى المستشرقين من الغرب الذين أتوا إلى الشرق ليتعرّفوا على الآخر، ما يعني تقييم وتثقيف الذات بتنوّع الحضارات. ربّما النموذج الأدبي على ذلك هو روايتا "كنديد" و"القدر" لـفولتير الذي اعترف أنّه كتب الروايتيْن متأثراً بحكايات ألف ليلة وليلة التي قرأها 14 مرة بشكل متتال، وخصوصاً حكاية السندباد البحري والسندباد البري.

في الفترتين السابقتين، كان السفر مقتصراً على الرجال فقط. لم يصلنا أي نص لامرأة رحّالة من عصور سابقة. ذُكرت النساء في رحلات الحج من أوروبا إلى فلسطين، ولكن كشخصيات ثانوية وكمرافقات للرجال.

في زمننا، أي زمن العولمة وما يسمى بما بعد الحداثة، توفّرت إمكانية السفر لكل النساء والرجال الذين غالباً ما يسافرون متّبعين موضة معينة، وليس بهدف الاكتشاف أو التعرف على الآخر. في كل عام، يتحدّث الناس عن موقع جديد، فيصبح وجهة الملايين، وترى أن أغلب المسافرين يفضلون تناول "البيتزا هات"، و"الماكدونالد"، وشرب "الكوكاكولا"، حتى وإن كانوا في تايلاند أو اليابان. وأصبحوا أقليّة من يتّخذون من السفر وسيلة لإمكانية تفكيك وإعادة بناء هويتهم وزيادة الوعي فيها. مثال على ذلك كتاب الصحافية الأميركية أليزبث جيلبرت Eat Pray love رغم كونه مصطنعا نوعاً ما.
دلالات
المساهمون