حكواتي: أم الخير البيروتية

19 اغسطس 2014
منطقة الطريق الجديدة في بيروت (العربي الجديد)
+ الخط -
"لو عندي بنت كنت زوّجتها لمحمد أمين"، هكذا يختصر أبو خالد علاقته بالشاب السوداني المقيم في غرفة ناطور المبنى منذ أكثر من عشر سنوات. هو الذي جاء من الخرطوم إلى بيروت ليتابع دراسته في الجامعة العربية بمنطقة الطريق الجديدة. فسكن في المبنى الذي يملكه أبو خالد وقتها، وعمل ناطوراً إلى أن أنهى دراسته. وفضّل الشاب أن يبقى في بيروت للعمل على العودة إلى الخرطوم. وبعد عشر سنوات بات الشاب يعرف الأزقّة والاحياء الشعبية كأبناء المنطقة تماماً. 

محمد ليس حالة استثنائية في الطريق الجديدة. جامعته التي تقع على أطراف المنطقة استقبلت آلاف الطلاب العرب الذين سكنوا محيطها. ذوّبت المنطقة الشعبية جلّهم في أحيائها الشعبية. فالشوارع المكتظّة بالناس نهاراً وروائح بنّ المقاهي وسمن الحلويات، تحسبها كميناً جميلاً يأتيه الأغراب بإرادتهم. فهنا الأسعار رخيصة لاستئجاء غرفة مثلا، ويتأقلم سكّانها سريعاً مع الوافدين العرب، خصوصاً أنّ للوافدين حاضنة شبيهة بمدنهم وأحيائهم.

لحضن الطريق الجديدة تاريخ مع الشباب العربي. فالجامعة التي تأسست في العام 1961، وضمّت حينها نخبة من الأساتذة المصريين، وما زالت. كان افتتاحها مواكباً للمدّ الناصري الذي تبنّاه أبناؤها، فرفعوا صور الرئيس المصري جمال عبد الناصر وشعاراته. بل حتّى أنّ الجامعة افتتحت قاعتها الكبرى باسمه. والمصريون أنفسهم فضّلوا خلال حرب تموز 2006 افتتاح مستشفى ميداني عسكري للمساعدات عبر السفارة المصرية، وما زالوا إلى الآن يقدّمون الخدمات الطبية هناك.

مع استقرار منظمة التحرير الفلسطينية في الطريق الجديدة أواخر الستينيّات، توافد المقاتلون العرب إليها. حتّى أنّ الزعيم الفلسطيني أبو عمار جعلها مقرّ إقامته الدائم.

لذلك شهدت الطريق الجديدة أوّل قذائف الغارات الإسرائيلية الجوية خلال اجتياحها بيروت العام 1982. تلك التجربة لم تخلق لسكّانها عقدة "دفع الثمن"، بل تآخت تماماً مع مخيمي صبرا وشاتيلا الفلسطينيين، واحتضنت مئات العراقيين النازحين إليها في العام 2003، خلال الاجتياح الأميركي للعراق. و"أم الخير"، كما يسمّيها كبارها، كانت ملاذ السوريين المدنيين منذ العام 2011 إلى يومنا هذا.

وتاريخها المضطرب مع النظام السوري ومحاولته معاقبتها بإقصاء زعمائها الواحد تلو الآخر، خلال فترة تواجده العسكري في لبنان، حوّلها إلى أكبر منطقة مؤيّدة للثورة السورية في لبنان بعد بلدة عرسال البقاعية. وشاءت ظروف الثورة الحالية أن تمنحها رابطاً مأساوياً، فسقط أحد أبنائها منذ أيام قليلة ضحية مواجهات الجيش اللبناني والمجموعات المسلّحة في عرسال نفسها. هو المقدّم في الجيش اللبناني نور الجمل، الذي ودّع منطقته التي عرفته لاعباً في فريق الأنصار لكرة القدم، صاحب الشعبية الجارفة هناك.

الأنصار في الطريق الجديدة ليس تفصيلاً أيضاً. فالنادي الذي أسّسه أبناؤها أخذ عنها خصالها الشعبية. حتّى لاعبوه الأجانب سكنوها وعاشوا بين أهلها. فقط في الطريق الجديدة كان يمكن أن ترى كابتن أرمينيا يأكل الفول، ولاعباً من ترينداد توباغو يشاهد مولداً نبوياً أُقيم في إحدى ساحاتها. وأحد أهم لاعبي النادي ومدرّبه لاحقاً جمال طه هو مصري الأصل، نال الجنسية اللبنانية في العام 1993، اللاعب الذي عاصر المقدّم نور الجمل في الفريق الأساسي لخّص علاقة الناس، وافدين وسكاناً، بمنطقة كهذه في جملة واحدة، حين سُئِلَ ذات يوم عن إمكانية مغادرته أو انتقاله إلى الخارج، جمال طه اختصر كلّ شيء بالقول: "يلزمني 100 عام لأخرج من الطريق الجديدة".

المساهمون