حكواتي :"سَكْرتون" أمّي

24 سبتمبر 2014
فتاة ترتب ثيابها (Getty)
+ الخط -
في مثل هذه الأيام من كل سنة، حيث بدايات البرد، التي تتوافق مع التوقيت ذاته للموسم الدراسي، تقفز أمي إلى ذاكرتي، ببقجها المفتوحة، وخزانة الملابس الكبيرة المفتوحة، التي ندعوها في حلب " السكرتون". أمي، وغيرها الكثيرات من نساء الحارة والعائلة، ولنقص المساحات الكافية لحفظ الثياب، مع كثرة الأولاد، تُخرج البقج وتفتحها، مرتين في السنة، حيث لا نحتفي بالفصول العابرة غير المحسوس بها، بل نحسب فقط حسابات الشتاء والصيف. وهي مناسبة في الوقت نفسه، لفصل الملابس غير الصالحة للارتداء، وتكويم طبقات من الثياب المعدّة للتوزيع أو تحويلها إلى مسّاحات للأرض. تستغرق هذه العملية يوماً بكامله أحياناً، ويتحول البيت إلى بازار. إنها فرصتنا، البنات خصوصاً، للسطو على ملابس أمي التي لا تتحرك من بعض البقج.
تلك الفساتين الأنيقة التي ارتدتها في صباها، وما عادت ترتديها لأنها ضاقت عليها من ناحية، أو لم تعد مناسبة لعمرها. الثوب الأزرق السماوي، المطرز بالخرز الأبيض، الذي حاولت دوماً إقناعها للحصول عليه، ورفضت، لأنه يحمل ذكريات السنة الأولى من زواجها. أدهش كيف كانت أمي نحيلة إلى هذا الحد، وترتدي أثواباً قصيرة من دون أكمام. تبتسم: "كانت الموضة هديك الأيام"، وتزداد دهشتي كيف كان أبي الشاب يسمح لعروسه بالخروج بهذه الملابس، بينما يدقق علينا نحن البنات، وكأنه لم يكن يوماً ذلك الزوج. في باريس، نقوم بالعملية ذاتها، لكننا غالباً لا نعيد الصيفي إلى خزائن الثياب، لا من باب الترف، ولكن لضيق المكان ولغياب ثقافة البقج هنا. تزدحم الغرفة المخصصة لوضع الأغراض الفائضة، في الطابق السفلي المشترك لجميع سكان المبنى، بأكياس الملابس. حين كنت أسكن وحدي في "السيزيم"، أي الدائرة السادسة عشرة، أحد أحياء باريس الثرية، في غرفة صغيرة لا تتسع لسريري حين أفتحه، وفي موسم انتقاليّ معاكس، من الشتاء نحو الصيف، في طريقي صوب المترو، عثرت على كيس مفتوح جوار مدخل المبنى. لم أقاوم رغبتي وأنا ألمح الألوان الجذابة، وأخذت بتقليب الأغراض.
ندمت كثيراً على البلوزة الكحلية التي تركتها، لأنني خجلت من النظرات المتعالية لسيدة بورجوازية رمقتني، فتركت الثياب النظيفة والجديدة تسقط في الكيس ومضيت. رأيت سيدة تقترب، تقلب في الكيس كما فعلت، تأخذ أغلب الملابس ومنها كنزتي الكحلية، الكنزة التي كانت ستكون لي، لولا خجلي اللعين. ولأن تلك البقج تغويني، ولا أعثر على ما يشبه "سكرتون" أمي هنا، أنقّب في الانترنت عن جميع عناوين "البروكانت"، أي أسواق بيع الأشياء المستعملة، وهي تختلف كثيراً عن أسواق "الباله" في بلادنا، التي قالت صديقة لي ذات مرة، خائفة من التبضع هناك: "إنها ملابس الموتى"، لكن البائع في "البروكانت" معروف ويقف أمامك، هو نفسه صاحب الأشياء التي يبيعها. سيدة تبيع معطفها الأنيق الذي تلقته هدية، ولم يناسب حجمها، لأحصل عليه بأقل من نصف الثمن.. وهكذا. ينظر البائع إلى المشتري، وهو يأخذ أغراضه الشخصية: كتب، مجلات قديمة، أشرطة فيديو ودي في دي، مفارش طاولات، أغراض مطبخ، مزهريات، لوحات، أحذية، لعب أطفال، إكسسوارات.... في هذا الوقت من العام، أفتقد رائحة "سكرتون" أمي، فأفتح خزائني، وأنقّب بين أغراضي القديمة، ربما أجد شيئاً مما سطوت عليه من أغراض أمي ذات يوم، وأتقنت إخفاءه، حتى عنّي، فأكتفي بالرائحة، وأخبئ "السكرتون" داخل الخزانة، أو تحت السرير.
دلالات
المساهمون