حكم "فائض القوة"
بعد انتظار دام 15 عاماً، كُشف اللثام عمّا كان من المفترض أن يكون "حقيقة" اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق، رفيق الحريري. يوم الثلاثاء الماضي، حبس اللبنانيون أنفاسهم وهم يتابعون جلسة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في لاهاي، مترقّبين معلوماتٍ جديدة ومعطيات دامغة تدين الضالعين في الجريمة التي هزّت لبنان في عام 2005، متخوّفين، في الوقت نفسه، من أن يكون قرار المحكمة مدخلاً إلى موجة جديدة من التوتر الأمني والسياسي في البلاد، مماثلة لما شهدته بين عامي 2005 و2008. غير أن أياً من هذه الآمال أو المخاوف لم يحصل، وجاء القرار بمعطيات الحد الأدنى، والتي كانت جلّها معروفة، بفعل التسريبات الكثيرة في الصحف اللبنانية على مدى الأعوام الماضية، والتي اشتملت حتى على الأسماء التي أوردها قرار المحكمة الدولية. القرار أيضاً، والذي جاء في نحو ثلاثة آلاف صفحة، احتوى على قراءة سياسية شاملة، وسطحية في الآن نفسه، للواقع السياسي الذي سبق جريمة الاغتيال، من دون الجزم بأنه كان المسبب الرئيس لها، أو مرتبطاً بها بشكل مباشر، تاركاً الأمر للمخيلات والتحليلات والقراءات بين الأسطر، والتي يحترفها غالبية اللبنانيين بمختلف مشاربهم، وهو ما حدث فعلياً.
لم تمض ساعاتٌ على القرار، حتى انقسم اللبنانيون في قراءة الحيثيات، وكلٌّ حاول أن يستقي منه ما يخدم مصالحه وحساباته السياسية الداخلية. ومن المؤكد أن الطرف الذي كان يجب أن يكون أكثر استفادة من القرار هو حزب الله وقيادته، بعدما برّأت المحكمة هذه القيادة من المسؤولية المباشرة عن "تصرّف" أحد عناصرها، ولم تجد ربطاً مباشراً بين مسؤولية سليم عياش (المتهم الوحيد المدان في القضية) وحزب الله، بل على العكس، إذ أشارت إلى "العلاقة الودية" التي كانت تجمع الحريري الأب مع الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله. كما أعفت الأسماء المتداولة الأخرى في القضية، والتي كان بينها القيادي في الحزب، مصطفى بدر الدين، من المسؤولية، لعدم كفاية الأدلة.
كل هذه المعطيات كان من المفترض أن يتلقفها الحزب لتبرئة ساحته من الجريمة بعد كل الربط الذي تم في السنوات الماضية بينه وبين قتل الحريري، خصوصا أن القرار جاء من منصةٍ معترفٍ بها محلياً وعالمياً، وهو ما كان من الممكن تسخيره في مسائل مماثلة، لتفنيد كل الاتهامات التي تساق ضد الحزب وأدواره المتعددة في الداخل والخارج. غير أن هذا لم يحصل، وبدل أن يسعى إلى استخدام هذا الحكم، والدفع بـ"براءته" من الجريمة، تصرّف حزب الله وفق منطق "فائض القوة" (أو "غطرسة القوة") نفسه الذي يتعاطى به مع كل ما له علاقة بالسياسة الداخلية اللبنانية، وحتى الإقليمية، عبر رفع أنصاره لافتةً مستفزة في قرية جنوبية، ومحاولة تعليق أخرى على أطراف بيروت، تحيّي "المجاهد سليم عياش". الأمر نفسه كان على وسائل التواصل الاجتماعي، عبر منشوراتٍ من الأنصار أنفسهم الذين عمدوا إلى تبجيل عياش وبدرالدين وغيرهما ممن وردت أسماؤهم في التحقيقات الدولية. لم تحاول قيادة الحزب تحييد نفسها عن هذا التصرّف، ولا دانته، بل تركت للرسالة السياسية "الشعبية" أن تمضي في طريقها وتصل إلى كل من يجب أن تصل إليه، سواء من الحلفاء أو الخصوم، خصوصاً أن هذه التصنيفات متحوّلة في السياسة، ويمكن أن تنقلب بين لحظة سياسية وأخرى.
لا يمكن تفسير هذا التصرّف إلا وفق منطق "فائض القوة" آنف الذكر، وكأن لسان حال من يقف خلف هذه الممارسات، وغيرها الكثير، يعمد إلى رفع سقف التحدّي الداخلي والخارجي. تحدٍّ لا يقود فك شيفرته إلا إلى جملة: "من يجرؤ على محاسبتنا؟". فهل هذا ما يقصده الحزب؟