في الحضانة، اكتشفت نور السيوطي أنّها محرومة من الأم والأب. الطفلة "المجهولة الوالدين" عاشت في دور رعاية طوال 23 عاماً، لكنّها تغلبت على كلّ الظروف وتعلمت وتزوجت وأسست منظمة حقوقية
"ماذا تعني كلمتا بابا وماما؟" سؤال طرحته الطفلة نور السيوطي (5 أعوام) على معلمتها في روضة "الحنان" إحدى أشهر رياض الأطفال في العاصمة السودانية الخرطوم، في سبعينيات القرن الماضي. كان ذلك لأنّها لم تسمع الكلمتين في الملجأ الذي كانت تعيش فيه مع عشرات الأطفال ممن يُطلق عليهم في ذلك الزمان "الأطفال مجهولو الأبوين". لكنّ الكلمتين دخلتا إلى أذنيها أول مرة من أقرانها في الروضة. لم تجد المعلمة، فاطمة سعد، التي تتذكر السيوطي اسمها حتى اليوم، إجابة غير البكاء أمام الطفلة، قبل أن تجيبها أنّ "ماما وبابا" تعنيان امرأة ورجلاً يأتيان بنا إلى الحياة، فما كان من الطفلة إلا أن عاجلت المعلمة بسؤال آخر أصعب: "أين ماما وبابا؟" فأخبرتها المعلمة بحزن أنّ والديها في الجنة.
من خلال ذلك الحوار، تؤكد نور السيوطي، التي وصل عمرها اليوم إلى 49 عاماً، أنّها أدركت أنّ أمها وأباها تخليا عنها في ظروف لا تعلمها، خصوصاً بعدما اكتشفت أنّ للأطفال الآخرين آباء وأمهات وحياة أسرية مليئة بالحنان والدفء، تختلف تماماً عن الحياة التي تعيشها هي مع أطفال آخرين لم يسمعوا مثلها بكلمتي "ماما وبابا" ولم يهنؤوا بعطف وحنان الأسرة.
كبرت نور السيوطي ووصلت إلى المرحلة الثانوية وكانت لا تزال تقطن في دار الرعاية الاجتماعية الذي وفر لها منحة دراسية جامعية في الأردن في مجال السكرتاريا وإدارة الأعمال، فتخرجت من هناك، ثم عادت إلى السودان.
تزوجت السيوطي عن حب، ومن رجل تقول إنّه تفهّم وضعها، ولم ينظر إليها نظرة سلبية كما ينظر إليها كثير من الأشخاص في المجتمع المحلي والعربي عامة. أنجبت ثلاثة أطفال، هم الآن في طور الشباب، فتخرج أحدهم من الجامعة، وما زال آخر يدرس فيها، فيما تدرس ابنتها الوحيدة في الصف الثانوي الأخير. لم تكتفِ بأطفالها، بل تبنت طفلين آخرين من "الأطفال المحرومين من آبائهم" وهو أحدث مصطلح يطلق عليهم، ولا يكرس كما المصطلحات القديمة، الوصمة والتجريم. تؤكد السيوطي أنّ أبناءها وبناتها من رحمها واللذين تبنتهما يعلمون كل شيء ويتعايشون مع ذلك بقبول ورضا وفخر، بل يشاركونها العزم على تغيير الصورة النمطية.
تقول السيوطي لـ"العربي الجديد": "إدراكي الحقيقة مبكراً، ومعي زملائي داخل دار الرعاية الاجتماعية، جعلنا نفكر في عمل لصالح تلك الفئة من الأطفال والشباب الذين وجدوا أنفسهم في حياة لم يختاروها، ويواجَهون بالوصمة والتجريم، ويحمَّلون مسؤولية أخطاء لم يرتكبوها، ويدفعون فواتير باهظة من دون جرم. ولا تقتصر مشاكل المحرومين من الوالدين عند الصورة التمييزية النمطية بحسب السيوطي، بل تمتد إلى الحرمان من الأوراق الثبوتية وما يؤدي إليه من مشاكل في تلقي العلاج والتعليم. فمعظم أفراد هذه الفئة محرومون من الانتساب إلى منظومة التامين الصحي، ولا يمنحون أراضي، فضلاً عن الصعوبات الكبيرة جداً التي يواجهونها في استصدار الأوراق الثبوتية عندما يصلون إلى سنّ الرشد.
اقــرأ أيضاً
بحسب إحصاءات رسمية، فإن دار "المايقوما لرعاية الأطفال المحرومين من الأبوين" التي عاشت فيها السيوطي في طفولتها، تستقبل سنوياً ما بين 600 و700 طفل. لكن، بمجرد وصولهم إلى مرحلة النضج يجري تحويل الفتيات إلى دار خاصة بهن، والفتية الذكور إلى دار أخرى.
تعتبر السيوطي أنّ الحلّ لكل تلك المشاكل يتلخص في إصلاح مجتمعي وقانوني يضمن لكلّ طفل يولد خارج المؤسسة الزوجية، أو يفقد أمه وأباه في ظروف أخرى، أن يدمج داخل أسرته حتى ولو كانت الأسرة الكبيرة الممتدة، وألا يُسمح بإيداعه في دور الرعاية، إذ يمكن أن تقدم خدمات علاجية وتعليمية، لكنّها لن تعوضه رعاية وحنان الأسر.
لكلّ ذلك، قررت نور السيوطي، ونحو أربعين من أبناء شريحتها، عام 2007، تأسيس منظمة باسم "شمعة" غرضها الأساسي عدم السماح بفصل طفل عن أسرته مهما كانت الطريقة التي جاء بها إلى الحياة، لعدم تكرار ما عاشوه هم أنفسهم في دور الرعاية.
سُجّلت المنظمة رسمياً في الولاية وعلى المستوى الوطني، وعند زيارة "العربي الجديد" مقر المنظمة في الخرطوم، كانت السيوطي تتحدث بزهو وفخر عن إنجازات المنظمة خلال عشر سنوات، وبأمل في إنجاز المزيد. داخل المقر سكن خاص لإيواء الفتيات اللواتي حملن خارج إطار الزوجية وحضانة للأطفال، ومشغل يدوي لخياطة الملابس يمكّن الفتيات من الحصول على المال من عملهن أثناء الإقامة في المقر.
تقود المنظمة بعد جمع المعلومات، عن الفتيات اللواتي يلجأن إليها، تفاوضاً مباشراً معها ومع شريكها في الحمل، لإقناعهما بالزواج، وعدم التخلي عن الطفل، وإقناع الأسرتين إذا كان هناك رفض. كذلك، تتكفل بمعظم مستلزمات الزواج. تؤكد السيوطي أنّه منذ إنشاء المنظمة، حتى نهاية العام 2017، نجحت في لمّ شمل 3 آلاف طفل مع أسرهم، عن طريق تزويج الأم والأب، مع تقديم دعم سنوي للعائلة.
كذلك، تذكر السيوطي أنّ المنظمة استصدرت 7 آلاف وثيقة رسمية لفئة الأطفال والشباب من المحرومين من الأبوين، وتقدم دعماً اجتماعياً لألفيّ أسرة. ودخلت منظمة "شمعة" التي تشغل فيها السيوطي منصب المدير العام، في اتفاقيات مع الشرطة السودانية ووحدة الطفل بوزارة الرعاية الاجتماعية والسجل المدني لصالح الأطفال.
نور السيوطي تسعى الى تدوين تجربتها الإنسانية الشخصية والحقوقية في كتاب سيصدر قريباً تكمل فيه بقية الحكاية.
اقــرأ أيضاً
"ماذا تعني كلمتا بابا وماما؟" سؤال طرحته الطفلة نور السيوطي (5 أعوام) على معلمتها في روضة "الحنان" إحدى أشهر رياض الأطفال في العاصمة السودانية الخرطوم، في سبعينيات القرن الماضي. كان ذلك لأنّها لم تسمع الكلمتين في الملجأ الذي كانت تعيش فيه مع عشرات الأطفال ممن يُطلق عليهم في ذلك الزمان "الأطفال مجهولو الأبوين". لكنّ الكلمتين دخلتا إلى أذنيها أول مرة من أقرانها في الروضة. لم تجد المعلمة، فاطمة سعد، التي تتذكر السيوطي اسمها حتى اليوم، إجابة غير البكاء أمام الطفلة، قبل أن تجيبها أنّ "ماما وبابا" تعنيان امرأة ورجلاً يأتيان بنا إلى الحياة، فما كان من الطفلة إلا أن عاجلت المعلمة بسؤال آخر أصعب: "أين ماما وبابا؟" فأخبرتها المعلمة بحزن أنّ والديها في الجنة.
من خلال ذلك الحوار، تؤكد نور السيوطي، التي وصل عمرها اليوم إلى 49 عاماً، أنّها أدركت أنّ أمها وأباها تخليا عنها في ظروف لا تعلمها، خصوصاً بعدما اكتشفت أنّ للأطفال الآخرين آباء وأمهات وحياة أسرية مليئة بالحنان والدفء، تختلف تماماً عن الحياة التي تعيشها هي مع أطفال آخرين لم يسمعوا مثلها بكلمتي "ماما وبابا" ولم يهنؤوا بعطف وحنان الأسرة.
كبرت نور السيوطي ووصلت إلى المرحلة الثانوية وكانت لا تزال تقطن في دار الرعاية الاجتماعية الذي وفر لها منحة دراسية جامعية في الأردن في مجال السكرتاريا وإدارة الأعمال، فتخرجت من هناك، ثم عادت إلى السودان.
تزوجت السيوطي عن حب، ومن رجل تقول إنّه تفهّم وضعها، ولم ينظر إليها نظرة سلبية كما ينظر إليها كثير من الأشخاص في المجتمع المحلي والعربي عامة. أنجبت ثلاثة أطفال، هم الآن في طور الشباب، فتخرج أحدهم من الجامعة، وما زال آخر يدرس فيها، فيما تدرس ابنتها الوحيدة في الصف الثانوي الأخير. لم تكتفِ بأطفالها، بل تبنت طفلين آخرين من "الأطفال المحرومين من آبائهم" وهو أحدث مصطلح يطلق عليهم، ولا يكرس كما المصطلحات القديمة، الوصمة والتجريم. تؤكد السيوطي أنّ أبناءها وبناتها من رحمها واللذين تبنتهما يعلمون كل شيء ويتعايشون مع ذلك بقبول ورضا وفخر، بل يشاركونها العزم على تغيير الصورة النمطية.
تقول السيوطي لـ"العربي الجديد": "إدراكي الحقيقة مبكراً، ومعي زملائي داخل دار الرعاية الاجتماعية، جعلنا نفكر في عمل لصالح تلك الفئة من الأطفال والشباب الذين وجدوا أنفسهم في حياة لم يختاروها، ويواجَهون بالوصمة والتجريم، ويحمَّلون مسؤولية أخطاء لم يرتكبوها، ويدفعون فواتير باهظة من دون جرم. ولا تقتصر مشاكل المحرومين من الوالدين عند الصورة التمييزية النمطية بحسب السيوطي، بل تمتد إلى الحرمان من الأوراق الثبوتية وما يؤدي إليه من مشاكل في تلقي العلاج والتعليم. فمعظم أفراد هذه الفئة محرومون من الانتساب إلى منظومة التامين الصحي، ولا يمنحون أراضي، فضلاً عن الصعوبات الكبيرة جداً التي يواجهونها في استصدار الأوراق الثبوتية عندما يصلون إلى سنّ الرشد.
تعتبر السيوطي أنّ الحلّ لكل تلك المشاكل يتلخص في إصلاح مجتمعي وقانوني يضمن لكلّ طفل يولد خارج المؤسسة الزوجية، أو يفقد أمه وأباه في ظروف أخرى، أن يدمج داخل أسرته حتى ولو كانت الأسرة الكبيرة الممتدة، وألا يُسمح بإيداعه في دور الرعاية، إذ يمكن أن تقدم خدمات علاجية وتعليمية، لكنّها لن تعوضه رعاية وحنان الأسر.
لكلّ ذلك، قررت نور السيوطي، ونحو أربعين من أبناء شريحتها، عام 2007، تأسيس منظمة باسم "شمعة" غرضها الأساسي عدم السماح بفصل طفل عن أسرته مهما كانت الطريقة التي جاء بها إلى الحياة، لعدم تكرار ما عاشوه هم أنفسهم في دور الرعاية.
سُجّلت المنظمة رسمياً في الولاية وعلى المستوى الوطني، وعند زيارة "العربي الجديد" مقر المنظمة في الخرطوم، كانت السيوطي تتحدث بزهو وفخر عن إنجازات المنظمة خلال عشر سنوات، وبأمل في إنجاز المزيد. داخل المقر سكن خاص لإيواء الفتيات اللواتي حملن خارج إطار الزوجية وحضانة للأطفال، ومشغل يدوي لخياطة الملابس يمكّن الفتيات من الحصول على المال من عملهن أثناء الإقامة في المقر.
تقود المنظمة بعد جمع المعلومات، عن الفتيات اللواتي يلجأن إليها، تفاوضاً مباشراً معها ومع شريكها في الحمل، لإقناعهما بالزواج، وعدم التخلي عن الطفل، وإقناع الأسرتين إذا كان هناك رفض. كذلك، تتكفل بمعظم مستلزمات الزواج. تؤكد السيوطي أنّه منذ إنشاء المنظمة، حتى نهاية العام 2017، نجحت في لمّ شمل 3 آلاف طفل مع أسرهم، عن طريق تزويج الأم والأب، مع تقديم دعم سنوي للعائلة.
كذلك، تذكر السيوطي أنّ المنظمة استصدرت 7 آلاف وثيقة رسمية لفئة الأطفال والشباب من المحرومين من الأبوين، وتقدم دعماً اجتماعياً لألفيّ أسرة. ودخلت منظمة "شمعة" التي تشغل فيها السيوطي منصب المدير العام، في اتفاقيات مع الشرطة السودانية ووحدة الطفل بوزارة الرعاية الاجتماعية والسجل المدني لصالح الأطفال.
نور السيوطي تسعى الى تدوين تجربتها الإنسانية الشخصية والحقوقية في كتاب سيصدر قريباً تكمل فيه بقية الحكاية.