حكاية تبدأ من دم الآباء

17 مارس 2018
(الأهرامات من على ساحل النيل حوالي عام 1900)
+ الخط -

ما أنا إلا نتيجة حتمية لكل ما مرّ عليّ وعلى آبائي من أحداث، فالمادة لا تنعدم وكذلك المعاني، قد يموت الطير وتموت الحشرات والهوام، ولكنها تتحلّل في تراب الأرض فتغذّي النبات والأشجار، وقد يتحوّل النبات والأشجار إلى فحم، ويتحوّل الفحم إلى نار، وتتحوّل النار إلى غاز، ولكن لا شيء من ذلك ينعدم، حتى أشعة الشمس التي تكوّن الغابات وتنمّي الأشجار تُختزن في الظلام، فإذا سلطت عليها النار تحوّلت إلى ضوء وحرارة وعادت إلى سيرتها الأولى.

وكذلك الشأن في العواطف والمشاعر والأفكار والأخيلة، تبقى أبداً، وتعمل عملها أبداً، فكل ما يلقاه الإنسان من يوم ولادته، بل من يوم أن كان علقة، بل من يوم أن كان في دم آبائه، وكل ما يلقاه أثناء حياته، يستقر في قرارة نفسه، ويسكن في أعماق حسّه، سواء في ذلك ما وعى وما لم يعِ، وما ذكر وما نسي، وما لذ وما آلم. كل ذلك يتراكم ويتجمّع، ويختلط ويمتزج ويتفاعل، ثم يكون هذا المزيج وهذا التفاعل أساساً لكل ما يصدر عن الإنسان من أعمال نبيلة وخسيسة - وكل ذلك أيضاً هو السبب في أن يصير الرجل عظيماً أو حقيراً، قيّماً أو تافهاً - فكل ما لقينا من أحداث في الحياة، وكل خبرتنا وتجاربنا، وكل ما تلقته حواسّنا أو دار في خلدنا هو العامل الأكبر في تكوين شخصيتنا.

ولو ورث أي إنسان ما ورثتُ، وعاش في بيئة كالتي عشت لكان إياي أو ما يقرب مني جداً. لقد عمل في تكويني إلى حد كبير ما ورثت عن آبائي، والحياة الاقتصادية التي كانت تسود بيتنا، والدين الذي يسيطر علينا، واللغة التي نتكلم بها، وأدبنا الشعبي الذي كان يُروى لنا ونوع التربية الذي كان مرسوماً في ذهن أبوي ولو لم يستطيعا التعبير عنه ورسم حدوده ونحو ذلك؛ فأنا لم أصنع نفسي ولكن صنعها لله عن طريق ما سنّه من قوانين الوراثة والبيئة.

عجيب هذا العالم، إن نظرت إليه من زاوية رأيته كلّاً متشابهاً، يتجانس في تكوين ذراته، وفي بناء أجزائه، وفي خضوعه لقوانين واحدة؛ وإن نظرت إليه من زاوية أخرى رأيت كل جزئية منه تنفرد عن غيرها بميزات خاصة بها، لا يشركها فيها غيرها، حتى شجرة الوردة نفسها تكاد تتميّز كل ورقة فيها عن مثيلاتها، فمن الناحية الأولى نستطيع أن نقول: ما أشبه الإنسان بالإنسان، ومن الناحية الثانية نقول: ما أوسع الفرق بين الإنسان والإنسان.

وعلى هذه النظرة الثانية فأنا عالم وحدي، كما أن كل إنسان عالم وحده. تقع الأحداث على أعصابي، فأنفعل لها انفعالاً خاصاً بي، وأقوّمها تقويماً يختلف - قليلاً أو كثيراً - عن تقويم كل مخلوق آخر غيري. فالحادثة الواحدة يبكي منها إنسان، ويضحك منها آخر؛ ولا يبكي ولا يضحك منها ثالث، كأوتار العود الواحد، يوقع عليها كل فنان توقيعاً منفرداً متميزاً لا يساويه فيه أي فنان آخر.

فأنا أروي من الأحداث ما تأثرت به نفسي. وأحكيها كما رأت عيني. وأترجمها بمقدار… ما انفعل بها شعوري وفكري.

حلوان، شتاء 1950

* من الفصل الأول من كتاب "حياتي".

المساهمون