حكاية الولد المحتال

27 يوليو 2015

مشهد

+ الخط -

كنت، مرَّة،ً بالقرب من كراج الزرقاء- عمان. اقترب مني  ولد في عمري، تبدو عليها أمارات الضياع، وطلب مني، بخجل شديد، "مساعدة" لدفع أجرة الطريق إلى بيتهم في صويلح. لم أكن أعرف أين تقع صويلح هذه. ولكن، بدت لي مكاناً بعيداً ما دامت بعد عمَّان. لم أكن أملك قرشاً واحداً، فعرضت عليه المجيء إلى بيتنا، عسى أتدبَّر تلك الأجرة من أمي، فوافق. سألني إن كنت زرت عمَّان، فقلت له إنني زرتها مرة واحدة مع أبي، ولا أتذكّر سوى المدرج الروماني، فقال إن عمَّان مدينة كبيرة، كبيرة، لا يعرف الناس فيها بعضهم بعضاً، ويمشون مسرعين، مليئة بالمطاعم ومحلات الكنافة والنوفوتيهات والسيارات والأضواء، ويمكن أن يضيع الواحد منا فيها بسهولة. أعجبتني طريقته الهادئة، الواثقة، في الكلام، وأعجبتني أكثر قدرته على السفر وحيداً من بلدته البعيدة التي لا أعرف أين تقع إلى الزرقاء.

في البيت قال الولد، ذو الهندام النظيف، لأمي، إنه كان في زيارة الى أبيه المتزوج من امرأة ثانية، ولم يكن والده العسكري في البيت فطردته "خالته" (زوجة أبيه) من دون أن تعطيه أجرة الطريق إلى صويلح، حيث يقيم مع أمه المطلَّقة. كان ذلك كافياً لكي تعطيه أمي أجرة الطريق، وفوقها حبَّة مسك. ففي حكايته المقتضبة كل العناصر التي تجعل أمَّاً (أيّ أمّ) تقوم بما قامت به أمي، من دون تدقيق:

أولاً: هناك طلاق الأم وزواج الأب من أخرى. ثانياً: عدم وجود الأب في البيت للقيام بواجبه الأبوي. ثالثاً: زوجة الأب (الخالة) المكروهة في المخيلة الشعبية (لنتذكر، فقط، حكاية الطير الأخضر). رابعاً: محاولة عودة الابن إلى أمه المنتظرة في بلدة بعيدة، والمصاعب التي اعترضته.

بات هذا الولد، الذي لا أتذكر اسمه، تلك الليلة في بيتنا، وفي الصباح أفطر معنا، وذهب إلى أمّه في صويلح. لم تكن أمي تتقبَّل، عادةً، حضور أيّ من أصدقائي إلى البيت حتى بلغت المرحلة الثانوية، لكنها تقبَّلت، بكل أريحية، وجود ذلك الولد المطرود من "خالته" الشريرة. بل أعطته أجرة الطريق إلى بلدتهم. بعد فترة، كنت أتسكَّع في شوارع الزرقاء، بانتظار أحد أصدقائي، فإذا بي أشاهد ذلك الولد يتحدث الى رجل في الطريق. الرجل يبدو عليه أنه يتعجَّل الذهاب، والولد يحاول إحداث ثغرة في حركة الرجل المتعجِّل لإسماعه شيئاً، ولما فشل في وقف حركة الرجل، انتقل الولد إلى نوع من الرجاء الذي ظهر لي من حركات يديه. أدهشني الأمر. قل أذهلني. الولد نفسه. لغة جسده نفسها، لكني لم أكن أسمع ما يدور. اقتربت منهما وسمعت طرفاً من الحكاية التي رواها الولد لي، عندما رأيته أول مرة. ولكن، بدلاً من بلدة "صويلح" ذكر اسم "مادبا"، فقال الرجل نافد الصبر: امشي يا ولد.. لاقي واحد غيري تضحك عليه!     

أحسَّ الولد أنَّ شخصاً يقف خلفه. تلفَّت إلى الوراء فرآني. صدم لرؤيتي، وقربي منه إلى ذلك الحدّ بحيث يستحيل أن لا أكون سمعت كلامه. حدَّق بي لحظة، ثم قال وهو يطلق ساقيه للريح: هوّه أنت؟

لم أحاول اللحاق به، بيد أن كلمات الرجل ظلت تطنُّ في أذني. تذكّرت هدوءه الواثق، وهو يروي لي حكايته الصغيرة، ورأسه المطأطئ وهو يتحدَّث إلى أمي، فشعرت بالخديعة. لم أشعر بخديعة في حياتي، حتى ذلك الوقت طبعاً، مثلما شعرت بها عندما اكتشفت حقيقة المحتال الصغير. كنت أظن أني، بوصفي ابن حي جناعة العشوائي الذي لا ينخدع أولاده بسهولة، محصَّن في وجه احتيالات من هذا الطراز. لكنَّ الولد المحتال خدعني بحكايته، لا بمكره. بناؤه حكاية بسيطة تستمد قوتها من العناصر التي سقتها آنفاً، وقدرته التمثيلية على إقناع الآخرين بها هما سلاحه الذي انتصر به عليّ.

لم أخبر أمي قط بما رأيته، فقد كان من شأن ذلك أن يقوي أوراق ضغطها عليّ.

 

دلالات
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن