تستمرّ الأزمة الحياتية في اليمن، في حين توقّفت عمليات "عاصفة الحزم" وبدأت عملية "إعادة الأمل". يكفي الوقوف ساعة واحدة أمام إحدى محطات المحروقات في صنعاء التي راحت تؤمن "ماء سبيل" للمحتاجين، لتيقّن ذلك.
في كل يوم، يتجمّع عدد من اليمنيين واليمنيات بالقرب من محطة محروقات خالية من الوقود ومن السيارات كذلك في وسط العاصمة صنعاء، في انتظار وصول شاحنة صهريج أو "بوزة" كما يطلق عليها محلياً. فور وصولها، يبدأون بالتدافع ويشكلون خلفها طابوراً ينتظرون فيه دورهم من أجل تعبئة مطراتهم البلاستيكية بالمياه.
وفي حين تبقى محطة المحروقات المغلقة شاهداً على أزمة الوقود المتفاقمة في البلاد منذ الأيام الأولى لـ"عاصفة الحزم" التي توقّفت عملياتها أمس الأول، يُعدّ طابور الرجال والنساء والأطفال الواقفين خلف شاحنة صهريج المياه، مؤشراً واضحاً على تجاوز أزمة اليمن الحالية شدّة الوقود لتتحوّل أزمة معيشية شاملة، وصلت إلى حدّ تشكّل طوابير للحصول على بضعة لترات من المياه.
ويعرف اليمن الفقير الذي يعاني من شحّ مياه في الأساس، أزمة اقتصادية مستمرة ومتصاعدة منذ سنوات من جرّاء الاضطرابات السياسية والصراعات المسلحة واستشراء الفساد في أجهزة الدولة. وقد أخذت هذه الأزمة تتصاعد بحدّة منذ بداية عام 2011، الذي لا يتذكره اليمنيون كعام ثورة بقدر ما يعدّونه عام أزمة. هي الأزمة التي تعدّ الأطول والأشد من نوعها بين كل الأزمات التي عرفتها البلاد منذ عقود. لكن اليمنيين يواجهون اليوم أزمة جديدة، يتخّوف عديدون من أن تكون أزمة 2011 مجرد مزحة بالمقارنة معها.
زايد (45 عاماً) أحد عمال محطة المحروقات المغلقة. لكنه منذ انطلاق عمليات "عاصفة الحزم" قبل أربعة أسابيع، تحوّل من مهمة تزويد السيارات بالوقود إلى تزويد الناس بالمياه. فهو يتولى قيادة شاحنة الصهريج وجلب المياه وتوزيعها على اليمنيين في الطابور. بالنسبة إليه، "ما زالت الأزمة في بدايتها. ومع هذا، يمكن القول إنها أشدّ من أزمة 2011". ويخبر أنه "قبل أسبوعَين أيام كان الناس يتزاحمون على خزان مياه صغير، ماء سبيل. فقرّر صاحب المحطة توفير المياه لمن يحتاجها مجاناً".
وشاحنة الصهريج التي يقودها زايد ويتحمّل تكاليفها مالك المحطة، مثال على دور التكافل الاجتماعي في مواجهة الأزمات الاقتصادية في بلد يفتقر إلى شبكات ضمان اجتماعي وإلى دولة في الأساس، لا سيّما بعد توقف مشروع المياه الحكومي عن ضخ المياه. وقد توقف المشروع منذ أول أيام "عاصفة الحزم" نتيجة انقطاع التيار الكهربائي، ما أدى إلى إقبال كثيف على شاحنات الصهاريج التي رفعت أسعارها مرتين.
خلف شاحنة صهريج المياه، يصطف ما لا يقل عن 30 رجلاً وامرأة وطفلاً في انتظار ملء مطراتهم. طلال (15 عاماً) يقف في آخر الطابور ويجرّ عربة وضعت عليها ثلاث مطرات، في حين يخزّن القات. يخبر أنه يحضر للتزوّد بالمياه مذ بدأ صاحب المحطة بتوفير المياه قبل أسبوعين.
يومياً، يقصد زايد ثلاث مرات إحدى آبار صنعاء لملء الصهريج. لكن ذلك لا يكفي محتاجي الحي الذين يكونون في انتظاره في كل مرة. أسامة (12 عاماً) واحد من هؤلاء. هو في الصف السادس، لكنه لم يعد يذهب إلى المدرسة شأنه شأن معظم تلاميذ اليمن، بعدما أغلقت المؤسسات التربوية أبوابها مع انطلاق العمليات العسكرية.
أعفت عاصفة الحزم أسامة من الوقوف في طابور الصباح المدرسي، لكنها أجبرته على الوقوف في خمسة طوابير مختلفة، تبدأ عند الصباح الباكر ولا تنتهي قبل آخر النهار. وكل ذلك من أجل الحصول على المياه. كلما أحضر زايد صهريجاً، كان أسامة في انتظاره. لكن الكميات التي يحصل عليها في المرات الثلاث لا تسدّ حاجة أسرته، ما يضطره الى البحث عن أماكن أخرى توفّر مياه سبيل.
ويشير زايد إلى أن "الأوضاع الأمنية لا تساعدنا على جلب المياه أكثر من ثلاث مرات، وإلا لكنا فعلنا كما في الأزمة السابقة". في المرة الأولى التي وفّر فيها زايد مياه سبيل للمحتاجين في خلال أزمة 2011، كان يقود شاحنة الصهريج نفسها ويجلب المياه إلى المكان نفسه، أمام محطة المحروقات هذه. كان يفعل ذلك ما بين أربع وخمس مرات يومياً.
وعدم قدرة زايد على تأمين المياه، يومياً، بالمقدار نفسه من قبيل ما كان يحصل في عام 2011، يعدّ مؤشراً بسيطاً وإنما دالاً على المقارنة التي يقدمها زايد "ما بين أزمة 2011 التي تزامنت مع الربيع العربي وأزمة 2015 الناجمة عن عاصفة التحالف العربي". هو يشدّد على أن الأخيرة أشد من الأولى، مبرراً ذلك بأن "أزمة 2011 نجمت عن تدهور الأوضاع المعيشية في البلاد من جرّاء الأزمة السياسية التي رافقتها صراعات مسلحة، في حين تأتي أزمة 2015 بعد تدهور أكبر في الأوضاع واشتداد الأزمة أكثر. ويُضاف إلى ذلك عاملان آخران أكثر أهمية يفاقمان الأزمة الحالية: حرب خارجية مع حصار جوي وبحري وبري".
اليمنيون بغالبيتهم يقرّون بالفارق الكبير ما بين أزمتَي 2011 و2015. وفيما يرى زايد أن الأخيرة ستطبق الخناق على اليمنيين أكثر فأكثر إن استمرت الحرب، يؤكد أنه لا يمكن لأحد أن يتكهن بما يمكن حدوثه بعد أسبوع. كذلك لا يدري إن كان سيتمكن من مواصلة جلب ماء السبيل للمحتاجين. فالمياه التي يجلبها لهؤلاء، تطلع من باطن الأرض بفضل احتياطي الديزل المخزن لدى أصحاب الآبار. لكن في ظل انقطاع التيار الكهربائي المستمر منذ بداية العمليات العسكرية، لن يتمكن مشروع المياه الحكومي من معاودة العمل وسيبقى العبء كله على آبار المياه وشاحنات الصهاريج التي أصبح امتلاك إحداها بأسعار مضاعفة أمراً صعباً أيضاً. تجدر الإشارة إلى أن الكهرباء لم تتوفّر إلا مرتين فقط في خلال الأسبوع الماضي كله. وفي كل مرة، لم تبقَ إلا ساعة واحدة فقط. ويقول زايد: "إذا استمر انقطاع الكهرباء أسبوعاً آخر، فإن الديزل سينفد لدى أصحاب الآبار"، ويصمت خوفاً من توقّع الأسوأ.
إنها الساعة الرابعة من بعد الظهر. شارع الرقاص في صنعاء الذي يربط بين اثنين من أكثر شوارع المدينة حيوية - الدائري وهائل -، يبدو شبه خالٍ إلا من بضع سيارات وعدد من المارة وسط الوجوم المخيّم. هؤلاء تضجّ رؤوسهم بأسئلة كثيرة حول الغد، في حين تتكدّس أكوام القمامة في كل يوم أكثر فأكثر في شوارع العاصمة. هنا في هذا الشارع، يبدأ زايد بتوزيع المياه على محتاجيها. فتعلو أصوات الرجال والنساء والأطفال الواقفين في الطابور.