وتأبى النسائم الباردة إلا أن تخترق العظام.. والذاكرة..
تهبّ الرياح كعاصفة تحبو، فتنسف السياج الذي يغلّف القلب والروح.. تسحبك من يد أحلامك لتأخذك إلى مكان.. ما زلت تخاله هنا.. ولكن لحظات الحنين المريرة.. والرعشة التي تسري في بدنك حين تقتحم تلك المشاهد مخيلتك.. وحدها من تذكرك أنه بات هناك..
تأخذك تلك الرياح البائسة إلى الحطب المشتعل في الأرض، وأنت تتأمل أشجار الزيتون التي تلقي عن كاهلها حملاً انتظرته عاماً كاملاً.. العمال الذين يهزجون بأعذب الأهازيج، وهم يصعدون "السيبة" ليجنوا رحيق تلك الأشجار..
تسرح بك الذاكرة.. وتستحضر رائحة الأرض الرطبة، والتراب العالق في الأحذية يأبى أن يغادرها.. تماماً كما تستوطن رائحته في أقاصي القلب.
خطواتك تترك أثرها في الأرض.. والرائحة تحفر خندقاً في الروح.
لم تكن تلك الأيام تحمل معها الخير وحده، بل كانت حبلى بالفرح، كم من فتاة خطفت قلب فارس أحلامها، برشاقتها وخفتها، ودلالها وهي تغني، فيما تجمع اللآلئ الخضراء المتناثرة على "القلع" الأبيض..
ذكريات الشباب، والشجرة التي التقت عندها النظرات، وحكايا الحب والموت التي ينسجها المسنون وهم يحتسون كؤوس الشاي المغلي على الحطب.. طعم الزيت البكر، اللاذع والمرّ، الذي تروى به أرغفة الخبز، لتبقى مرارته تجرح الذاكرة حتى الموسم القادم..
في آخر موعد لي مع هذه الطقوس.. وقبل ثلاثة أعوام.. كان طعم آخر قد أضيف لطعم رغيف "الزنانة" المرّ في مدينتي الريفية الوادعة، كانت ملوحة الدم قد امتزجت بمرارة الزيت الطازج.. ما زال هدير الطائرة الذي اخترق جدار القلب، تماماً كما اخترق جدار الصوت، يدوّي.. ويدوّي.
خامرني شعور بأن النهاية قد أزفت.. فالهدير الرهيب يكشف قرب الهدف الذي تترصّده تلك الطائرة اللعينة.. صوت هائل يزأر في مكان ما، قريب من المكان.. تلتفت حولك لتستقرئ نظرات الذهول والهلع.. نساء يتراكضن نحو بيوتهن خشية أن الطائرة قد لا تترك لهن سوى أنقاض بيت.. أشلاء أحبة.. وبقايا فؤاد..
الرجال واجمون يرقبون الأعمدة السوداء المتصاعدة.. أرواحهم تبكي.. لكن العيون تأبى إلا أن تبقى صامدة، كما جذوع الزيتون في المدينة، ثم يتراكضون ليشهدوا حبات الزيتون المتدحرجة على الأرض.. مخضبة بدماء ثلاثين من الرجال.. كانوا ينتظرون أرغفة "الزنانة" الطازجة من المعصرة.. لكنها سبقتهم إلى المقبرة..
مصير حبات الزيتون في أول أعوام الحزن السوري، لم يكن أفضل .. فالحبات الخضراء تشبعت باللون الأحمر.. لم يكن التراب وحده من لوّنها.. ولكنها دماء من قضوا عاماً يدلّلونها ليستقبلوها بين أحضانهم.. غير أنها هي من سارعت لاحتضان أجسادهم، التي انسكبت دماؤها على الأديم المخضب بالماء.. والحب..
شهيدان من مدينتي.. أحد عشر شهيداً من قرية مجاورة.. عشرون آخرون من البلدة المتاخمة.. كلهم كانوا على موعد مع المطر.. إكسير الحياة.. الزيتون.. أيقونة الخصب.. والموت.. مرسى سفن الأفئدة التواقة للقاء الأرض.. فكانت آخر لحظاتها.. في أحضان الأرض المجبولة بالمطر والدم..
تتقافز فجأة أمام مخيلتي.. صورة ذلك الرجل التسعيني الذي أذكره منذ أيام الطفولة.. ولطالما زرته برفقة جدي حين كنت صغيرة في دكانه البسيط.. ذلك الرجل الذي أنهكته الحياة.. ولكن وحدها فجيعته بأشجار الزيتون من استطاعت أن تنتزع روحه من جسده.. فالروح اقتلعت مع أشجار الزيتون التي حصدتها الدبابات.. أتذكر جدي.. أحبس دمعتي بين جفني.. ثم أمسحها، وأشكر الله أن جدي توفي قبل أن يفجع بالاثنين معاً.. أشجار الزيتون.. وابن عمته.
نسمة أخرى.. تهبّ من النافذة المشرعة على جبال أنطاكيا.. هنا أيضاً توجد أشجار زيتون .. ولكن تربتها ليست حمراء تماماً، بنقاء دم أبناء مدينتي.. ولا هي مختلطة بعرق أبنائها الذين يمضون جلّ أوقاتهم في تدليلها.. وتسريح شعرها، وتقليم أظافرها، كما لو أنها عروسهم التي لا يمكن أن يسمحوا للزمن أن ينال منها..
يهطل المطر.. فتنتعش المخيلة.. وتبكي الروح.. فالزيت هنا لا يجرح اللسان بمرارته.. ولكنه يجرح الضمير.. فالأرض التي كنت تتذمر من ترابها العالق بحذائك باتت خلف الجبل.. واستعادة ثقل التراب العالق.. وعذاب تنظيفه، أصبح حلماً يداعب الخيال مع كل نسمة..
تغلق الستارة.. وتسدل النافذة على المدى.. وعلى روحك.. وتمضي للفراش لتغسل عنك تراب الحزن.. تحت ستار الليل البهيم.. فلا أرض تحتضن دموعك هنا.. ولا جذع زيتون تسند جبهتك إليه.. ولا أنت قادر أن تكون هناك..
*السيبة: مصطلح يتداوله أهالي محافظة إدلب، وهي سلم ثلاثي يتسلقه الفلاحون لقطاف الزيتون.
*القلع: بساط أبيض من البلاستيك يمدّ تحت الأشجار لجمع حبات الزيتون المتساقطة على الأرض.
*الزنانة: أكلة شعبية في إدلب مرتبطة بقطاف الزيتون، بحيث يغمس رغيف الخبز في إناء الزيت البكر المعصور تواً.
(سورية)
تهبّ الرياح كعاصفة تحبو، فتنسف السياج الذي يغلّف القلب والروح.. تسحبك من يد أحلامك لتأخذك إلى مكان.. ما زلت تخاله هنا.. ولكن لحظات الحنين المريرة.. والرعشة التي تسري في بدنك حين تقتحم تلك المشاهد مخيلتك.. وحدها من تذكرك أنه بات هناك..
تأخذك تلك الرياح البائسة إلى الحطب المشتعل في الأرض، وأنت تتأمل أشجار الزيتون التي تلقي عن كاهلها حملاً انتظرته عاماً كاملاً.. العمال الذين يهزجون بأعذب الأهازيج، وهم يصعدون "السيبة" ليجنوا رحيق تلك الأشجار..
تسرح بك الذاكرة.. وتستحضر رائحة الأرض الرطبة، والتراب العالق في الأحذية يأبى أن يغادرها.. تماماً كما تستوطن رائحته في أقاصي القلب.
خطواتك تترك أثرها في الأرض.. والرائحة تحفر خندقاً في الروح.
لم تكن تلك الأيام تحمل معها الخير وحده، بل كانت حبلى بالفرح، كم من فتاة خطفت قلب فارس أحلامها، برشاقتها وخفتها، ودلالها وهي تغني، فيما تجمع اللآلئ الخضراء المتناثرة على "القلع" الأبيض..
ذكريات الشباب، والشجرة التي التقت عندها النظرات، وحكايا الحب والموت التي ينسجها المسنون وهم يحتسون كؤوس الشاي المغلي على الحطب.. طعم الزيت البكر، اللاذع والمرّ، الذي تروى به أرغفة الخبز، لتبقى مرارته تجرح الذاكرة حتى الموسم القادم..
في آخر موعد لي مع هذه الطقوس.. وقبل ثلاثة أعوام.. كان طعم آخر قد أضيف لطعم رغيف "الزنانة" المرّ في مدينتي الريفية الوادعة، كانت ملوحة الدم قد امتزجت بمرارة الزيت الطازج.. ما زال هدير الطائرة الذي اخترق جدار القلب، تماماً كما اخترق جدار الصوت، يدوّي.. ويدوّي.
خامرني شعور بأن النهاية قد أزفت.. فالهدير الرهيب يكشف قرب الهدف الذي تترصّده تلك الطائرة اللعينة.. صوت هائل يزأر في مكان ما، قريب من المكان.. تلتفت حولك لتستقرئ نظرات الذهول والهلع.. نساء يتراكضن نحو بيوتهن خشية أن الطائرة قد لا تترك لهن سوى أنقاض بيت.. أشلاء أحبة.. وبقايا فؤاد..
الرجال واجمون يرقبون الأعمدة السوداء المتصاعدة.. أرواحهم تبكي.. لكن العيون تأبى إلا أن تبقى صامدة، كما جذوع الزيتون في المدينة، ثم يتراكضون ليشهدوا حبات الزيتون المتدحرجة على الأرض.. مخضبة بدماء ثلاثين من الرجال.. كانوا ينتظرون أرغفة "الزنانة" الطازجة من المعصرة.. لكنها سبقتهم إلى المقبرة..
مصير حبات الزيتون في أول أعوام الحزن السوري، لم يكن أفضل .. فالحبات الخضراء تشبعت باللون الأحمر.. لم يكن التراب وحده من لوّنها.. ولكنها دماء من قضوا عاماً يدلّلونها ليستقبلوها بين أحضانهم.. غير أنها هي من سارعت لاحتضان أجسادهم، التي انسكبت دماؤها على الأديم المخضب بالماء.. والحب..
شهيدان من مدينتي.. أحد عشر شهيداً من قرية مجاورة.. عشرون آخرون من البلدة المتاخمة.. كلهم كانوا على موعد مع المطر.. إكسير الحياة.. الزيتون.. أيقونة الخصب.. والموت.. مرسى سفن الأفئدة التواقة للقاء الأرض.. فكانت آخر لحظاتها.. في أحضان الأرض المجبولة بالمطر والدم..
تتقافز فجأة أمام مخيلتي.. صورة ذلك الرجل التسعيني الذي أذكره منذ أيام الطفولة.. ولطالما زرته برفقة جدي حين كنت صغيرة في دكانه البسيط.. ذلك الرجل الذي أنهكته الحياة.. ولكن وحدها فجيعته بأشجار الزيتون من استطاعت أن تنتزع روحه من جسده.. فالروح اقتلعت مع أشجار الزيتون التي حصدتها الدبابات.. أتذكر جدي.. أحبس دمعتي بين جفني.. ثم أمسحها، وأشكر الله أن جدي توفي قبل أن يفجع بالاثنين معاً.. أشجار الزيتون.. وابن عمته.
نسمة أخرى.. تهبّ من النافذة المشرعة على جبال أنطاكيا.. هنا أيضاً توجد أشجار زيتون .. ولكن تربتها ليست حمراء تماماً، بنقاء دم أبناء مدينتي.. ولا هي مختلطة بعرق أبنائها الذين يمضون جلّ أوقاتهم في تدليلها.. وتسريح شعرها، وتقليم أظافرها، كما لو أنها عروسهم التي لا يمكن أن يسمحوا للزمن أن ينال منها..
يهطل المطر.. فتنتعش المخيلة.. وتبكي الروح.. فالزيت هنا لا يجرح اللسان بمرارته.. ولكنه يجرح الضمير.. فالأرض التي كنت تتذمر من ترابها العالق بحذائك باتت خلف الجبل.. واستعادة ثقل التراب العالق.. وعذاب تنظيفه، أصبح حلماً يداعب الخيال مع كل نسمة..
تغلق الستارة.. وتسدل النافذة على المدى.. وعلى روحك.. وتمضي للفراش لتغسل عنك تراب الحزن.. تحت ستار الليل البهيم.. فلا أرض تحتضن دموعك هنا.. ولا جذع زيتون تسند جبهتك إليه.. ولا أنت قادر أن تكون هناك..
*السيبة: مصطلح يتداوله أهالي محافظة إدلب، وهي سلم ثلاثي يتسلقه الفلاحون لقطاف الزيتون.
*القلع: بساط أبيض من البلاستيك يمدّ تحت الأشجار لجمع حبات الزيتون المتساقطة على الأرض.
*الزنانة: أكلة شعبية في إدلب مرتبطة بقطاف الزيتون، بحيث يغمس رغيف الخبز في إناء الزيت البكر المعصور تواً.
(سورية)