حكايات صيف "30 يونيو"

12 يونيو 2015
+ الخط -
عدت إلى القاهرة في الأول من يونيو/حزيران 2013، بعد خمس سنوات قضيتها في إنجلترا، لم أزر خلالها مصر إلا مرتين، أولاهما كانت أواخر عام 2010 وتركتها قبل أيام من اندلاع ثورة 25 يناير 2011، والثانية كانت أواخر شهر مارس/آذار 2012. خلال الزيارة الأولى، تركت البلاد، وأنا على يقين بأن شيئاً ما سوف يحدث، وأتذكّر جيداً أني قلت لأحد الأصدقاء المقيمين في لندن، بعد أن سألني عن رؤيتي للأوضاع فى مصر، أن البلد يقف عند مفترق طرق، فإما ثورة شاملة أو موت واستسلام. كان ذلك بعد أشهر قليلة من إجراء انتخابات 2010 التي تم تزييفها وتزويرها، ووصول الحالة السياسية فى البلاد إلى انسداد كامل. كان ذلك أيضا بعد حوالي ثلاثة أسابيع من اندلاع الاحتجاجات فى مدينة سيدي بوزيد التونسية، بعد إحراق الشاب محمد بوعزيزي نفسه احتجاجاً على معاملة شرطية له في سوق الخضر بطريقة سيئة. 

أما الزيارة الثانية، وكانت في وقتها قد بدأت أزمة الجمعية الأولى للدستور في الاشتعال، في حين قررت جماعة "الإخوان المسلمين" الدفع بمرشح للرئاسة، بعد تعهدها بعدم القيام بذلك، في أثناء ثورة يناير. وهو القرار الذي سيصبح في ما بعد أكبر خطأ ارتكبته الجماعة في تاريخها السياسي. وقد أدركت وقتها أن هذا القرار بمثابة أول مسمار يُدق فى نعش الثورة المصرية، وأنه سوف يتم استدراج الثورة والجماعة إلى سيناريو كارثي، سوف يكتب نهايتهما، وقد حذرت من ذلك في عدة مقالات. ولكن، يبدو أن أحداً لم يكن لديه الوقت ليقرأ أو يفكر.
أعود إلى صيف 2013، حين عدت إلى القاهرة، وشعرت بحجم الانقسام والاستقطاب العميق الذي تمر به البلاد. وكانت الصدمة قوية، حين تابعت بعض الفضائيات المصرية، فوجدت ما يشبه "الحرب الأهلية الإعلامية" بين الفرقاء السياسيين. فى وقت كانت فيه "مانشيتات" وعناوين الصحف المصرية أشبه بمنصات لإطلاق قذائف التهديد وعبارات الوعيد بين الجميع، خصوصاً تجاه جماعة الإخوان والرئيس المعزول محمد مرسي. وقد شعرت، ربما لأول مرة، أنني فى بلد لا أعرفه، يختلف كلياً عن ذلك الذي كنت قد تركته قبل سنوات قليلة، حين سافرت للعمل باحثاً زائراً في معهد بروكينغز للأبحاث في واشنطن، قبل أن أعود إلى القاهرة لأشهر قليلة، ثم أنطلق إلى إنجلترا لإتمام رسالة الدكتوراه في جامعة دورهام.
بعد عودتي الأخيرة إلى القاهرة، قابلت خليطاً من ممثلي ورموز القوى السياسية في مصر من ليبراليين ويساريين وسلفيين وإخوان وإسلاميين مستقلين وبيروقراطيين، للوقوف على رؤيتهم للأزمة السياسية في البلاد، وكيفية الخروج منها. وكان ممن تحدثت إليهم بعض قيادات جماعة الإخوان. وقد هالني حجم اللامبالاة وعدم الاكتراث الذي تتعاطى به هذه القيادات مع الأوضاع السياسية الملتهبة آنذاك. ولا زلت أتذكّر حين سألت أحدهم عن استعدادهم للتعامل مع دعوات الحشد للتظاهر فى 30 يونيو، وكانت إجابته: "لا تقلق، لا شيء سيحدث في 30 يونيو"، وزادت صدمتي حين استطردت وسألته: وكيف ستتعاطون مع تهديدات بعضهم بالهجوم على مقرات الجماعة وحزب الحرية والعدالة، وكانت إجابته التي اكتست لهجة مطلقة: "لا تقلق، الشعب سوف يحمينا". لم يكن منبع الصدمة فقط حجم العزلة والوهم الذي كانت تعيشه قيادات "الإخوان" وانفصالها شبه الكامل عما يحدث على أرض الواقع، وإنما أيضا لثقتهم المطلقة ويقينهم بأن الشارع لا يزال معهم، وأنه لا أحد يمكنه التعبئة والحشد ضدهم. بعدها، لم يراودني شك بأن الصدام قادم لا محالة، وأن الجماعة خسرت المعركة قبل أن تبدأ.
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".