حكايات النهار المحرّمة

12 مايو 2014
Maria del Mar Portal/Contributor/Getty
+ الخط -

 

كانت جدّتي لوالدتي أمّية، ولكنها أكثر مثقّفة أثّرت في حياتي وحياة ذرّيتها. لم تقتصر ثقافتها ومعارفها على حياة البشر بل تخطّتها إلى حياة الجان والغيلان والسحرة والمردة، وتلك العوالم المخفية التي لا يمكننا دخولها إلا عبر خيالنا وصوت جدّتي المؤمن بوجودها، إيماناً لا يقبل الجدل أو حتى السؤال.

لم تكن تتابع الندوات والأمسيات الشعرية أو تعرف بوجودها، لكنها كانت تحرص على تقليد أُسري يومي، هو حكاية قبل النوم. وقد كانت حكاياتها ساحرة إلى حدّ يجعلنا، نحن الأحفاد، نطلبها في النهار، ولم نكن نفهم سبب رفضها المستهجن لطلبنا. لم نقبل يوماً أعذارها المختلقة، كما اعتبرناها. ما كانت تؤكّده أنه لا يجوز البتّة أن تُحكى الحكايات في النهار، وكان هذا بمثابة قانون صارم أو شيء محرّم.

رغم أنّ تحريمها نهاراً أزعجني، إلا أنّ حكايات جدّتي الليلية كانت تميّزاً كبيراً لي، فقد كنت أتفوّق على البنات الأجمل والأغنى والأذكى مني بشيء واحد، هو أنني أحفظ الكثير من الحكايات، عن ثلاثة أجيال، جدّتي ووالدها وأمي. الأخيرة أضافت إلى حكايات أمّها وجدّها حكايات من الكتب المدرسية ومن كليلة ودمنة ولافونتين. فجدّتي لم تكن تلك المرأة التي حين كبرت راحت تستعيد الحكايات لتملأ فراغ لياليها ولتدلّل أحفادها، بل هي كانت تحكي حكاية قبل النوم لأولادها. وكانت تفعل ذلك نقلاً عن والدها الذي كان بمثابة "حكواتي" القرية. كان كثيرون يقصدونه مساءً في منزله للاستماع إلى ما يحفظه من حكايات، وهي كانت كأخوتها تستمع إلى حكاياته، التسلية الوحيدة المتاحة في ذاك الزمن، حيث لا تلفزيون أو راديو أو حتى أراجوز يمرّ خطأً بالقرية النائية، ولا يُسمح للبنات أن يقصدن المقاهي حيث يمكن للرجال اللهو والسمر...

اقتصار رواية الحكايات على الليل يعود إلى تقليد بعيد، فالنهار للعمل ولاستقبال الضيوف أو الباعة المتجوّلين... الذين قد يقطعون السارد ويخرقون قدسية الحكاية. لم تقل جدّتي هذا صراحة، كانت تكتفي بكلمات مثل: "ما بيسوى وما بيصير"... حين نصرّ على السبب، كانت تقول: "الي بيحكي بالنهار بيصير حمار". كنا نضحك ونعتبر الأمر مزحة، وإن كانت تقول ذلك بجدّية عالية.

حين لم تعد تلك الحجة تجدي، راحت جدّتي تردّ على إصرارنا بقول أكثر بلاغة: "حلّوا عني، أنا حكاية وشقفة". أي أنها حكاية ونصف، أو حكاية وأكثر. وبما أنها كانت ترفق الجملة بنفض فستانها عنها تأففاً وضيقاً، انتبهتُ إلى أنّها ربما تعني بالـ "شقفة" الفستان نفسه، ما يجعل جملتها تعني التالي: أنا حكاية في فستان. أي أنّها حكاية طويلة ومعقدة ترتدي فستاناً، ولا يجوز أن تخرج من فستانها في ضوء النهار.

قد يكون لتحريم حكايات النهار أسباب كثيرة، فهي إن حُكيت في النهار، لن يبقى لليل شيء يؤنس وحشته ويضيء ظلمته. دخول الكهرباء إلى منزل جدّتي العتيق، لم يبدّل القوانين ولم يرفع المحظور، كان على أحد ما أن يحمي تقليد الأسرة الراسخ، أن يهدّد بتحوله إلى حمار أو وحش، كي يبقى لحكاية قبل النوم سحرها، وكي تجول الغيلان والأميرات والعفاريت على هواها لا يقطعها زائر أو ضيف.

وهي حكايات تحفل بالأحلام والآمال الكبيرة، بقصص الحبّ الجارف، التي إن سمعها أطفال على مشارف المراهقة، ستشحنهم بطاقة لا يُحمد خروجها في ضوء النهار، طاقة مكانها المثالي الوسادة والأحلام.

بعيداً عن الأسباب المنطقية لتحريم سرد الحكايات نهاراً، والتي لم تكترث جدّتي يوماً بإعطائها، ليس صعباً على امرأة آمنت بوجود الغولة والمارد والعفريت أن تؤمن أنّها "حكاية في فستان". لقد كانت كذلك، وفقط قبل النوم كانت تتحرّر وتذهب إلى عالم يشبهها وتستحقّه، قصصه تنتهي بانتصار الحقّ والخير وبالتبات والنبات وإنجاب الصبيان والبنات.

دلالات
المساهمون