"كنت أحلم أن أصبح أستاذا". هكذا بدأ ربيع (11 عاماً) حديثه لـ "العربي الجديد"ّ، وهو يحاول أن يداري دموعه، قبل أن يتحوّل هذا الحلم إلى سراب، فقد كان لموت والديه وشقيقه في حادث سير، الأثر الأكبر في قلب حياته رأساً على عقب. هكذا ودون مقدّمات وجد نفسه في الشارع يحمل لقب "متشرد".
عاش ربيع منذ أن كان بعمر الثامنة، في الشارع وتمكن من الانضمام إلى مجموعة من الأطفال الذين سبقوه إلى هذا الفضاء المفتوح على كل الاحتمالات، واستطاعوا أن يؤمنوا له عبر التسوّل ما يسد به رمقه ومكاناً يؤويه، بالقرب من إحدى الحدائق العمومية بمدينة الدار البيضاء (كبرى مدن المغرب). يقول "لم تكن الدراسة حينها من أولوياتي، لأنني أصبحت أبحث عما أسدّ به جوعي، وكيف أقضي الليل في الشارع خاصة عندما تُغرِق الأمطار الأزقة".
أما سعد، وهو من مواليد العام 2007، فكان يعيش في كنف عائلته، إلى أن توفيت والدته، وتزوج والده امرأة ثانية، لترعى إخوته الصغار. يقول لـ "العربي الجديد": "هذه السيدة لم تجمع شمل الأسرة بل تسبّبت في تشتيتها، وتشرّدنا جميعاً إلى وجهات مختلفة. لم أكن أتحمل معاملتها لنا وتعنيفها لنا بأسباب ومن دونها. هربت إلى الشارع، وتعرّضت لمحاولات تحرّش مستمرة من مجهولين، قبل أن أهتدي إلى مدخل إحدى العمارات تحصّنت فيه. كنت أفترش قطعة كرتون، قبل أن يحن عليّ حارس العمارة ويمنحني بطانية وأكلا".
ويضيف "أشعر بحزن شديد عندما أرى أطفالاً في سني يذهبون إلى المدارس، متأبطين حقائبهم المدرسية، في الوقت الذي أتأبط فيه كيساً بلاستيكياً فيه بقايا طعام. أعلم جيداً أن هذا الطريق لن يقودني إلا إلى الإدمان أو التسوّل. لقد ندمت كثيراً على هروبي من البيت، فهو بالرغم من سيئاته أفضل من الشارع".
بدوره، وقف عبد العالي (13 عاماً) يتأمل تدافع الأطفال داخل سيارة النقل المدرسي وهو يغمغم بكلمات غير مفهومة. كانت ثيابه المتسخة دليلاً كافياً للتعريف عن حياته. اقتربنا منه للتعرّف عليه، تردّد في البداية، قبل أن يروي قصته لـ "العربي الجديد".
يقول "ترعرعت وسط أسرة مفككة، مشاكلها لا تنتهي. كان مطلوباً مني أن أشتغل في الصيف لأساهم في مصروف البيت، وفي تكاليف الكتب المدرسية. مواصلة الدراسة ترتبط بالـ"كمّ" الذي أجنيه في اليوم. هكذا ومنذ سن صغيرة بدأت علاقتي مع الشارع، بمسح الأحذية. رحتُ أجوب المقاهي مساءً حاملاً صندوقي الخشبي، الذي وحده يعرف مقدار دموعي. ألمّع أحذية الناس، ومنهم من يرق لحالي ومنهم من يرمقني بنظرات متعالية".
يضيف "في سن العاشرة غادرت نهائياً منزل أسرتي الذي كان عبارة عن غرفة ضيقة ينام فيها الجميع. منذ ذلك الحين فقدت أية صلة بالتعليم والقراءة. يحزّ في نفسي أن أرى أطفالاً منحتهم الحياة فرصة التعليم، بينما أنا ومجموعة من الأطفال نجوع ولا يد تمتد لنا، نمرض ولا دواء، وقد نموت ولا يلتفت إلينا أحد".
نتيجة للفقر واليتم والمشاكل العائلية، وغيرها من المشاكل الاجتماعية، يعيش هؤلاء الأطفال في ظروف قاسية محرومين من الحق في التعليم، ولا يتمتعون بأي رعاية صحية ولا فرصة للاندماج، إلا من كان نصيبه الإدماج في إحدى مؤسسات الرعاية الاجتماعية أو دور الطفولة، كما هو حال آدم (9 سنوات)، الطفل المتخلّى عنه، الذي انتشلته الشرطة من الشارع ليتمتع بالرعاية في دار الأيتام لالة حسناء.
Facebook Post |
كان حظ هذا الطفل جيداً، مقارنة مع سعد وعبد العالي وربيع، وتمكن بفضل هذه الدار من الاندماج واللعب والتعلم أيضاً، إلى جانب أطفال هذه المؤسسة التابعة لوزارة الصحة والتي تأسست عام 1956، وتدار من قبل جمعية الإحسان التي أنشأتها مجموعة من المتطوعين. وقد استقبلت منذ نهاية الثمانينيات 2834 طفلاً، 2701 غادروا من بينهم، و1689 تمت حضانتهم بفضل الكفالة، بحسب مسؤول بالمؤسسة فضل عدم ذكر اسمه.
Facebook Post |
تفتح المؤسسة أبوابها للأطفال وتؤمن لهم الرعاية والمأوى والتعليم والرعاية الصحية والدعم النفسي والاجتماعي. ويعدّ التعليم من أولوياتها، إذ تحرص على توفيره داخل المؤسسة وخارجها لفائدة 90 طفلاً، من بينها التدريس المجاني في بعض المدارس الخصوصية، والشراكة مع مؤسسات عديدة.
وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها هذه المؤسسة وغيرها من جمعيات المجتمع المدني، بالإضافة إلى برامج الدولة وآلياتها لمحاربة التشرّد، من خلال رقم أخضر للتبليغ عنه وإطلاق مرصد لرصد وتسيير مختلف مراكز الرعاية الاجتماعية والتنسيق بينها، إلا أن الظاهرة ما زالت في تزايد بحسب الباحث في علم الاجتماع عبد الرحيم الزعيم، الذي يؤكد في تصريح لـ "العربي الجديد"، الحاجة إلى مزيد من الجهود من أجل استراتيجية تشاركية ناجعة للقضاء على التشرد وتداعياته الاجتماعية والنفسية.
يقول الباحث السوسيولوجي "يحرم المتشردون عموماً من الحياة الطبيعية، لكن التأثير الأكبر يكون على الأطفال، الذين يقسو عليهم الشارع، ويتعرّضون للمضايقات المستمرة، وقد يقعون ضحايا للاغتصاب أو في فخ الإدمان والتسوّل، كما يفتقدون لأبسط الحقوق في حياة كريمة"، مشيراً إلى أنهم "صيد سهل لشبكات التسوّل أو تجارة الأعضاء وحتى الجماعات الإرهابية في المستقبل".
وبالرغم من التقدّم الكبير في معدلات الالتحاق بالمدارس في أجزاء عديدة من العالم، إلا أن عدد الأطفال من الفئة العمرية من 6 سنوات إلى 11 سنة من غير الملتحقين بالمدارس ازداد منذ عام 2011. وهناك حوالي 124 مليون طفل ومراهق غير ملتحقين بالمدارس، كما أن اثنين من كل خمسة أطفال يُتِمُّون مرحلة التعليم الأساسية دون أن يتعلموا القراءة والكتابة وإجراء العمليات الحسابية البسيطة، وذلك وفقاً لبيانات منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونسيف".
وإذا كان حلم أطفال الدول المتقدمة تجاوز أسوار المؤسسات التعليمية، فإن حلم هؤلاء الفتية هو الحصول على فرصة للتعليم والمساواة والرعاية، للاندماج في المجتمع.