يطالب الكاتبُ، ويطالب المشفقون من النقاد، بحقٍ أو حقوق له، في أن يصعد من غمرات الإهمال والتجاهل إلى ذرى الشهرة والذيوع.
ويلح الكثيرون على ضرورة أن يأخذ نصيبه من مساحات النشر والحضور، أن تلتفت إليه المؤسسات المعنية، وزارات ثقافة أو جمعيات أو اتحادات، وتضعه في مقدمة جداول أعمالها، أن توفر له مستلزمات الظهور في المناسبات ورفوف المكتبات، أن يحصل على دخل يكفيه ذل الوقوف بباب هذا أو ذاك، أو يرتضي مرغماً بطوق تحكمه حول عنقه هذه الجماعة أو تلك.
ويعتقد المطالبون بهذه الحقوق وأمثالها أن توفير حياة كريمة للكتّاب، والمبدعين منهم بخاصة، من واجبات الدولة ومن يقوم مقامها، ولا تفكر حتى قلة من هؤلاء بمسؤولية المجتمع المدني وهي تمدّد هذه المطالبات لتصل إلى إدانة حرمان الكاتب من حرية التعبير والنشر.
كل هذا من دون أن يتطرق أحد إلى حق القارئ في أن يصل إلى كتّابه ومبدعيه، وتوجيه النظر إلى أن الكاتب العربي قد يكون أقوى وأصلب وأكثر حرية حين يستوفي قراءه حقهم في الوصول إليه وإلى نتاجاته. فلماذا لا ينتقد أحد حرمان القراء من كتّابهم؟ من حقهم في المعرفة والوصول إلى المبدعين في شتى أرجاء ثقافة أمتهم؟ ولماذا لا يذكر أحد واجب المجتمع في أن يحمي كتّابه، أو أن تكون له على الأقل حرية الوصول إليهم؟
للكاتب حقوق بالطبع، ولكن على رأسها، وقبل المطالبة بتكريم أو جائزة أو مساحة للنشر، حق جمهور القراء في الوصول إليه، حقهم في معرفته مبكراً، وليس بعد قرن أو قرنين.
ما يفتقر إليه الكاتب العربي بالدرجة الأولى هو هذا الجمهور المغيّب والممنوع من الوصول إلى المطبوعة والكتاب والمعلومة، فلا سوق ثقافيا واسعا، بل جزر متناثرة يقطع القارئ المسافات بينها، هذا إن تمكن، لاهثاً منقطع النفس. ولا وسائل مواصلات تصل إليه إن كان بعيداً عن العاصمة، ولا بيئة ثقافية حاضنة تعلي من قيمة المعرفة والثقافة، بل أسواق أبطالها كتّاب تسلية وعروض ترفيه وإضحاك، وشاشات لا تفتح إلا على سيرك أو ألعاب حواة، وفوق كل هذا نوافذ مغلقة دون الكتّاب الجادين وكتبهم.
هل احتجَّ أحد كما احتج قارئ حين حجبت صحيفة مقالات كاتب يعتز أنه يقرأ له، فتساءل: "لماذا أُحرم من حقي في قراءة مقالات كاتب يفتح لي أبواب المعرفة ويثري حياتي وتفكيري؟ أليس من حقي أن أعترض وأحتج؟".
قال الروائي الراحل غالب هلسا ذات يوم: "في وطن ينطق فيه 300 مليون إنسان تقريباً باللغة العربية يكفي الكاتب ما نسبته 5% من القراء بين هذه الملايين ليوفر له قلمه وسائل عيش، ويحرره من سطوة وسياط مؤسسة أو منظمة أو دولة، ولكن حتى هذه النسبة لا تتوفر في هذا الوطن الشاسع".
لو احتج القراء وتساءلوا، لو تمكنوا من ترسيخ حقهم في المعرفة والاطلاع، لو احتج المجتمع، لما احتاج أحد إلى المطالبة بحقوق لهذا الكاتب أو ذاك المبدع، بل إلى المطالبة بدلاً من ذلك أن يقوم هذا الكاتب أو ذاك المبدع بواجبه.