تفوّقت علينا رندة، صديقتنا الآتية في زيارة من كندا، بعد حصولها على الجنسية الكندية وإتقانها اللغة الفرنسية. لكن لم تغادرها بعد تلك اللكنة الجنوبية المتلازمة مع أيّ لغة تكلّمتها، لتصبح فرنسيتها باللكنة الجنوبية. تفوّقت علينا "بخبرياتها" عن الفقر الذي رافق طفولتها، في سهرة كنّا ننبش خلالها من ذاكرتنا حكايا عن حرمان عرفناه، عن ألم نتحدّث عنه بشكل ساخر كلّما التقينا واستحضرناه.
بدأ علاء يتذكر كيف كانت والدته في أواخر سبعينيّات القرن الماضي تصطحبه وأخوته من بيتهم في برج أبي حيدر صباح كلّ يوم سبت، وتتّجه بهم سيراً على أقدامهم لزيارة خالتهم أميرة في رأس النبع، مسافة تزيد على أربعة كيلومترات تقريباً. فيصعدون على درج قاصدين الطبقة السادسة حيث تقطن، ثم يعودون سيراً منهكين من التعب.
وراح يضيف ساخراً أنّه لم يكن يعرف أصلاً بوجود وسائل نقل أو سيّارات أجرة حينها، مفترضاً أنّ كل الناس تقضي حاجاتها مشياً وتتنقّل بهذه الطريقة. ويغوص علاء في شرحه كيف تعرّف إلى المصعد الكهربائي وعن عشقه للصعود به. فقد عرفه داخل بناية لأحد أقاربه الميسورين.
هنا أقاطعه ضاحكاً لأقول: "أنا من جهتي أكثر ما أزعجني في فترة العوز التي شهدها كثيرون من اللبنانيين بين عامي 1985 و1990 هو انخفاض سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار إلى حدّ أصبح راتب الموظف مائة دولار أميركي تقريباً. كنتُ إذا ما اضطررت لشراء ملابس جديدة مثلاً أشتري البنطلون ويصعب شراء قطعة ثانية معه. وعليّ أن أؤجّل شراء قميص أو كنزة تناسبه لفترة لاحقة، عندها يكون البنطلون قد أصبح قديماً وفقد رونقه، فالبنطلون الذي انتظر قميصه الجديد قد تعب وحضر مكانه قميص ينتظر بدوره بنطلوناً جديداً، وبذلك قد ندر واستمتعتُ بقطعتين جديدتين معاً.
أطفأت رندة سيجارتها ونفثت آخر دخانها نحو الأعلى بنفثة طويلة مصحوبة بابتسامتها الجذابة، لتبدأ بسرد بعض من قصص اختلط فيها الألم بالضحك من واقع وتفاصيل أسرة من ثمانية أولاد يعيشون في شقّة متواضعة في زقاق البلاط، أحد أحياء بيروت، يعيلهم والد، من عربة لبيع الخضار.
تقول رندة إنّ يونس، أخاها الأصغر، قد ملّ، بعد فترة طويلة وهو يطالب والدهما باستبدال حقيبته المدرسية، وهي في الأصل الحقيبة التي حملها كلّ أفراد العائلة قبله. وطالب باستبدالها بأخرى تُحمل على الظهر أسوة بباقي زملائه. فحقيبته القديمة والمهترئة ليست مجهّزة بحمالات، ما يسبّب له ألماً وعذاباً شديدين. خصوصاً أنّه يذهب ويعود من المدرسة سيراً على قدميه والمسافة بين البيت والمدرسة ليست بالقريبة.
"بعد إصرار من يونس وتدخّل والدتي"، تقول رندة: "وشجارات يومية طويلة، أخذ والدي الحقيبة إلى جارنا الإسكافي في الحيّ لكي يضع للحقيبة حمالات للظهر. لم يفلح الإسكافي بإقناع والدي أنّه ينبغي تغيير الحقيبة، نظراً لوضعها المأساوي، وعليه شراء حقيبة أخرى تكون أصلا مصنّعة بشقّالتين، لكنّه خضع لإلحاح والدي بأن يركّب لها حزامين من الخلف بشكل يستطيع ولده حملها على ظهره".
وتتابع رندة: "جاء والدي بالحقيبة وفرضها على يونس. لكنّ المشكلة أن الإسكافي وضع للحقيبة حزامين طويلين، فصارت تصل الحقيبة حتّى مؤخّرته. وناهيك عن سخرية رفاقه من منظر الحقيبة المتدلّي من الخلف، إلا أنّها أخذت تعيق سيره، ما أدخلنا في نوبة جديدة من الشجار في البيت".
عاد والد رندة بعدها بالحقيبة إلى الإسكافي طالباً منه أن يقصّر الحزامين. لم يعجب الإسكافي الكلام، فهو من الأساس غير موافق على إصلاحها، لكنّ فقر الوالد وحاجته جعلاه ذا باعٍ طويل، وقدرة على تيئيس كلّ مناقشيه. فخضع الإسكافي لمنطق الوالد المنهك من الفقر، وقصّر الحزامين.
قصّر الإسكافي الحزامين كثيراً "ولم نتوقّف أنا وأخوتي عن الضحك"، تقول رندة، "منذ أن حاول أخي أن يحمل حقيبته، فإذا أدخل ذراعه اليمنى من جهة اليمين رجعت الحقيبة إلى الوراء بحيث استحال وصول ذراعه اليسرى لإدخالها في الحزام الأيسر. وإذا دفعنا بالحقيبة وساعدناه على إدخال الذراعين وقف فاتحا يديه كالجناحين وصعب عليه إغلاقهما، ما يستوجب ضرورة وجود مساعد كلّما أراد حمل أو خلع حقيبته".
وقف الإسكافي حائراً أمام الوالد حين وجده أمامه والحقيبة في يده، وقبل تورّطه في نقاش عقيم، أخذ الحقيبة من يده بانفعال وغضب، رماها بعيدا وأشفق عليه بحقيبة مستعملة من عنده ذات شقّالتين وضعها أفضل بقليل من حقيبة يونس.
هزّت رندة طويلاً رأسها، وتهيّأت لسيجارة جديدة، وختمت تقول: "إذا بدّي خبّركم عن مصائبنا، عندي قصص بتموّت ضحك".