انطلقت بنا السيارة شمالا مرورا بالأراضي الألمانية، توقفنا قليلا في برلين، التقيت صديقتي المترجمة والمهاجرة منذ عقود. حفرت الغربة أخاديد فيها، لم تعد تلك المرحة وقد أصابها سهم 5 سنوات من عمل مضن متنقلة بين قضية وأخرى في عملها المتوسع كمرشدة ومترجمة في آن.
أن تستمع لقصص اللاجئين القادمين إلى الشمال الأوروبي، ومنها ألمانيا والدول الإسكندنافية، سيصيب صديقتي، مثلما يصيبني بسهام خيبات ناجمة عن فهم مغلوط لبعض يشوه المشهد وسموه. وعدتها بأني سأبقى عندها في طريق العودة بضعة أيام.
كنت مدعوة إلى مناسبة فيها بعض الفرح في السويد، وقررنا عبور الدنمارك بالباخرة، كنت، ورغم الجو الماطر في عز الصيف أراقب تصرفات هؤلاء الإسكندنافيين الذين يتجولون في الباخرة، وبعضهم صعد من القطار الداخل فيها وبعضهم من سياراتهم التي ركنوها أسفل الباخرة، كمسافرين عاديين، وربما سائحين عائدين من إجازتهم. بين هؤلاء كان يبدو لي بضعة شبان صغار مرعوبين، ومن سحنتهم عرفت أنهم إريتيريون لاجئون ولم يكن بقية الركاب غير آبهين بهم، بل على العكس من بضع كلمات ذات جذر لاتيني فهمت ما ينتظر هؤلاء الشبان حين نصل الرصيف البحري، وهو ما حدث حيث كانت الشرطة بانتظارهم.
ظننت بأني لن أستمع لذات القصص التي أخبرتني بها صديقتي العربية-الألمانية، والتي أعرف منها لطبيعة اهتمامي عشرات، وإذ بنا نلتقي في جنوب السويد صديقات وأصدقاء من الدنمارك والنرويج وألمانيا.
أفزعني أن بعض اللاجئين يريدون تحويل حالتهم كظاهرة مدمرة لفكرة اللجوء وطلب الحماية. يحضر البعض وقد حمل في باله فكرة "حقي في كل شيء". مع التفهم الكامل لظروف الناس وما عاشوه من أوضاع صعبة اضطرتهم لترك بلادهم، وهو اضطرار كارثي على كل المستويات الإنسانية المكلفة. لكن، وهذه هي معضلة ألا نصارح بعضنا في ثقافة "التمويه" الكارثية علينا جميعا.
كنت وغيري مدركين في السابق بأن بعض الممارسات المسيئة تعتبر منفذا للتشدد اليميني المتطرف في دول اللجوء، وبالتالي الدفع بتشريعات مشرعنة على نسق: "انظروا واستمعوا للاجئين". بالطبع هو تعميم سخيف لا يمت للواقع بصلة، فتلك الحالات التي تظن بأن حقوقها عبارة عن جردة مكتوبة على ورقة يحملها أثناء الحديث مع موظفي الهجرة هي منزلة ومقدسة لا يمكن المساس بها.
حين يأخذ اليمين المتشدد وصحافته أمثلة حتى من صفحات "فيسبوك" عن "عروض لجوء مريحة وبوسائل وطرق سهلة ولبلدان معينة"، قدمتها "فورنتكس" بشكل رسمي، فإن الهدف السامي من اللجوء يحطمه هؤلاء التجار. ثم تنتقل العدوى بأن يجلس المترجم/المترجمة لينقلوا كلاما تم إفهامه للاجئ/اللاجئة بوجود موظفين رسميين لبحث طلب لجوئه ومتابعة شؤونه وأسرته: "نحن نعرف بأنه يحق لنا منزل كبير لأن عددنا كبير، ويكون لنا حق بتلقي راتب قدره..."، فتلك لغة فجة في الواقع، ولابد أن تدهش الموظفين بأن لاجئا وصل للتو يحمل ما يشبه "مفكرة" عن حقوقه.