حقاً إنها عملية جراحية

07 أكتوبر 2015
+ الخط -

كانت من الليالي النادرة التي استيقظ السكان فيها على صوت الزغاريد تنطلق من أماكن متعددة في حلكة الظلام، حيث يستمر نظام انقطاع الكهرباء، فيحرمهم من كل متعة وبلا هوادة. وكان صوت الزغاريد مستغرباً، في تلك الليلة بالذات، لأن غزة توقفت في ليالي الجمعة عن إطلاق الزغاريد، بعد انتهاء حفلات الزفاف احتفالاً ببكارة العرائس وذكورة العرسان وفحولتهم، فحتى أمد قريبٍ، كانت تلك عادة معروفة، وكان من الطبيعي أن يشق سكون الليل صوت الزغاريد، قادماً من بيت زفّ إليه عروسان، تلك الليلة، ابتهاجاً وفرحاً بالشرف والرجولة.

استقبلت غزة زغاريد، طالما افتقدتها، وطال غيابها عن آذان سكانها الذين يقتلهم الفقر والحصار، فقد انطلقت الزغاريد ابتهاجاً بالعملية الفدائية الجريئة التي تمت في نابلس ضد المغتصبين الصهاينة، وقد أعادت ذكريات أيام عشناها، نحن جيل انتفاضة الحجارة، حيث كنا نحتفل عند قيام المقاومين الأبطال بعملية استشهادية في عمق أراضي العدو، مع معرفتنا أن عدوان الانتقام سيكون شرساً.

أذكر أننا، إبّان انتفاضة الحجارة، لم نكن نترك جهاز الراديو الصغير المحدد مؤشره على إذاعة مونت كارلو من أيدينا. وكان أبي يصحبه في كل مكان، ليستمع إلى موجز الأنباء رأس كل ساعة، مع مراعاته فارق التوقيت، وكنا نهلّل ونكبر ونقفز فرحاً حين نسمع خبراً عن عملية استشهادية جديدة، فيما كانت غزة قد تحوّلت إلى شوارع من نار، وأصبحت مخيماتها معقلاً واحداً للثورة، وتتأجج في أزقتها معارك الحجارة والمولوتوف أمام الرصاص الحي والمطاطي وقنابل الغاز والدخان. وأذكر أن جارنا العجوز كان يملك دكان بقالة صغيراً على ناصية الشارع، يعتاش منه، هو وزوجته، فقد كانا بلا أولاد. وعلى الرغم من فاقته البيّنة، إلا أنه لم يكن يتردد عن سحب علبة كرتونية كبيرة من الحلوى، من فوق أحد رفوف دكانه، ويفتحها على عجل، ويقذف حباتها في الهواء باتجاه المارة، ويلتف حوله الصغار والكبار، مهللين ومكبرين، ويلوكون الحلوى التي تلتصق بأسنانهم، ويتناقشون حول تفاصيل العملية، من منفذها إلى عدد القتلى، ويدعون بالنصر والسداد والتمكين للسواعد التي خططت لها.

وقد دأب الباعة الشباب العابثون على لفت انتباهنا، نحن الفتيات المراهقات المتأنقات في بساطة، ونحن في طريقنا إلى المدرسة، بأن يصيح أحدهم فجأة حين تمر أفواج الطالبات من أمامهم بقوله: عملية..... عملية، فيتوقف المسير، وتشخص الأبصار، كباراً وصغاراً، ويسرع أصحاب المحال والمارّة للاستفسار من البائع العابث عن مكان العملية وعدد القتلى الإسرائيليين فيها، ومن أين استقى الخبر. ويعتقد الجميع أن عملية استشهادية جديدة وقعت، ولم تبلغ الأخبار التفصيلية لكل السكان بعد، لكن هذا الشاب العابث سرعان ما يبتسم ابتسامة لزجة، وهو يشير إلى ذراعه ضاحكاً: أقصد عملية جراحية في يدي. فلا يتردّد الجميع عن ضربه وشتمه، حتى اعتدنا، نحن الطالبات الخجولات، هذا الأمر، فلم نعد نرفع رؤوسنا عن الأرض، أدباً وحياءً.

حقاً إن عملية نابلس وما سبقها من عمليات فردية، ثم عملية الاستشهادي مهند الحلبي التي تلتها، تؤرق إسرائيل وتدعوها إلى القلق من "عودة المقاوم الفردي" حسبما وصفتها صحيفة معاريف التي نقلت عن مسؤول أمني إسرائيلي قوله إن هذه العمليات ناتجة عن المناخ العام، ولا حلول سحرية لإيقافها، عندما يستقل مثلاً شخص ما سيارته، ويقرر تنفيذ عملية ضد الإسرائيليين، جنوداً أو مدنيين.

إذن، غزة لم تطلق زغاريدها ليلاً ابتهاجاً واحتفالاً إلا فرحاً بخبر عن عملية فردية نوعية، أعادت أمجاد النضال الفلسطيني في ظلّ التناحر والاختلاف والشقاق. والمبهج أكثر أن كل الفصائل الفلسطينية قد توّحدت في تأييد عمليتي نابلس والقدس ومباركتهما، لتؤكد أن ما يوحّدنا، نحن الفلسطينيين، هو المقاومة المخططة والمدروسة والمشروعة التي أحدثت جواً من الرعب في قلب العدو، من كل سيارة مسرعة، ومن كل شخص عربي الملامح يصعد إلى باص، أو يقف في محطة قطار.

 

 

 

 

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.