حقائق وأوهام النمو الاقتصادي المصري

19 اغسطس 2020
سوق خضر وفاكهة بالعاصمة المصرية القاهرة
+ الخط -

يعرف الناتج المحلي الإجمالي للدول GDP بأنه محصلة ما تم إنتاجه في البلد من سلع وخدمات، مضروباً في سعرها، خلال السنة. ولتسهيل المقارنات بين الدول المختلفة، يتم تحويل الرقم إلى الدولار الأميركي وفقاً لسعر الصرف السائد. 

وبمقارنة الناتج المحلي في أي سنة بنظيره في السنة السابقة، يتحدد معدل النمو الاقتصادي، الذي يعد مؤشراً هاماً تنظر إليه الشعوب عند تقييمها للحكومات والرؤساء في أنظمة ديمقراطية، وتحدد بناء عليه، ضمن أمور أخرى، لمن تعطي صوتها في الانتخابات.
وفي حين تعد الأرقام الواردة من صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي هي الأكثر مصداقية على مستوى العالم، تؤكد المؤسستان طوال الوقت أنهما تعتمدان في أرقامهما على البيانات الواردة إليهما من البنك المركزي أو الحكومة في البلد المعني، وأنهما لا تملكان من الأدوات ما يسمح لهما بالتأكد من دقة هذه البيانات.

ويحكى أن تنزانيا، وبعد ثلاثين عاماً من غياب اليمقراطية، عقدت انتخابات نزيهة في العام 2015، تمكنت بعدها الحكومة، التي منحت المواطنين قدراً لا بأس به من الحريات، من إحياء اقتصاد البلد الفقير، وجذب الاستثمارات إليه، لتتسبب معدلات النمو المرتفعة في مضاعفة متوسط دخل الفرد، خلال الفترة من عام 1994 إلى عام 2010.

وفي عام 2015، انتُخِب جون ماجوفولي رئيساً، ليخون الديمقراطية، ويعيد البلاد إلى الوراء، بعد أن سجن المعارضين ونكّل بهم، وفرض قيوداً على الإعلام، وقبض على الصحافيين. ولم يكن ماجوفولي لينجح في إحكام قبضته على البلاد إلا بتحكمه في الاقتصاد، فسيطرت حكومته على جوانب كثيرة من النشاط الاقتصادي، وتنافست وجيشه مع رجال الأعمال، وفرضت عليهم ما يشبه "الإتاوات"، ثم قبضت على من لم يتبرع منهم لصندوق "تحيا تنزانيا". 
ويعمل أنصار ماجوفولي، من المنتفعين من سياساته، على إعادة انتخابه بعد شهرين، بسبب ما حققه من "إنجازات" خلال السنوات الماضية، مستشهدين بشبكة الطرق والكباري التي تم بناؤها، ومعدلات النمو الاقتصادي التي حققها "البلدوزر"، كما يطلقون عليه، حيث نما الاقتصاد التنزاني خلال السنوات العشر الماضية بمتوسط سنوي يقترب من 7%، الأمر الذي ساعد البلاد على الالتحاق بقائمة الدول "متوسطة الدخل"، التي يتجاوز دخل الفرد السنوي فيها 1036 دولارا، وفقاً لتصنيف البنك الدولي.
لكن صندوق النقد الدولي شكك العام الماضي في مصداقية الأرقام الصادرة عن البلاد، واعتبر أنها لا تتماشى مع عائدات الضرائب، أو معدلات الإقراض الموجه للقطاع الخاص، التي انخفضت بصورة كبيرة، أو نمت بمعدلات شديدة الانخفاض.

وبعد رفض السلطات التنزانية تقارير الصندوق، ومنعها من النشر في البلاد، أكد الصندوق اعتماده على بيانات الحكومات في ما يخص معدلات النمو المسجلة، ومشيراً إلى أن توقعات معدلات النمو فقط هي التي تصدر عن الاقتصاديين التابعين له. 
وخلال السنوات الماضية، قال البنك المركزي المصري إن الاقتصاد المصري نما بمعدل 5.3% في السنة المالية 2017 - 2018، ثم 5.2% في السنة التالية 2018- 2019، ثم 5.4% في السنة المالية 2019-2020 المنتهية قبل شهر ونصف تقريباً، أو هكذا أشارت توقعاته.

ولا يبدو على أرض الواقع أن هناك انعكاساً لتلك المعدلات في أي من المؤشرات الأخرى، حتى قبل ظهور وباء كورونا في مصر، حيث تراجع مؤشر مديري المشتريات بالقطاع الخاص في شهر يناير/كانون الثاني الماضي إلى 46 نقطة بعد أن كان 48.2 آخر شهور العام الماضي. وفي حين كان هذا التراجع هو السادس على التوالي في مصر، تعطي كل قيمة أقل من 50 مؤشراً سلبياً لمستويات الإنتاج الصناعي في البلاد.
وتراجع الإنتاج الصناعي للطلبات الجديدة في مصر مطلع العام الحالي بأعلى وتيرة منذ يناير/ كانون الثاني من عام 2017، وشهدت الطلبات الجديدة أكبر انكماش لها في السنوات الثلاث الخيرة، بعد غياب العقود الجديدة واستحواذ جهات سيادية على النصيب الأعظم من النشاط الاقتصادي.

ومع ظهور الوباء، توقف تماماً دخل السياحة الخارجية لمدة تتجاوز ثلث العام، ولا توجد إشارات إلى عودته لمستوياته السابقة، ناهيك بوصوله إلى ما توقعته الحكومة المصرية قبل ظهور الوباء، حتى الآن. 
وخلال السنة المالية الأخيرة، ارتفعت قيمة الجنيه، بعد تراجع سعر الدولار من 17.8 إلى 16.30، بنسبة تتجاوز 9%، وهو ما يعني أن كل ما يتم إنتاجه من سلع وخدمات خلال السنة المالية الماضية ارتفعت قيمته بنسبة 9% عند قياسه بالدولار، الأمر الذي يلقي كثيراً من الشك حول القيمة الحقيقية لمعدلات النمو المحققة، أو بالأحرى المعلنة. 
وقبل فترة، أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وهو جهة تابعة للحكومة المصرية، أن عدد المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر، المحدد في مصر بنحو 760 جنيهاً، أو حوالي 48 دولاراً شهرياً، زاد خمسة ملايين خلال الفترة من 2015 إلى 2018، لترتفع نسبتهم إلى إجمالي عدد السكان من 27.8% إلى 32.5%. 
والعام الماضي، أجلت الحكومة المصرية إعلان مؤشرات بحوث الإنفاق والدخل، التي كان من المفترض الإفصاح عنها أوائل العام الماضي، لأنها أظهرت ارتفاع معدل الفقر، الأمر الذي أدى إلى اعتراض "جهات عليا" عليها "لتعارضها مع الإنجازات التي قامت بها الدولة خلال العامين الماضيين". وطُلب من القائمين على البحث مراجعة النتائج مجدداً قبل إعلانها "حتى تتوافق مع تلك الإنجازات"، إلا أن المراجعة لم تغير النتائج، فتم إلغاء الإعلان.

الحقائق السابقة تشير بوضوح إلى استنتاج من اثنين، الأول يقول إن معدلات النمو الحقيقية للاقتصاد المصري تقل كثيراً عما يتم إعلانه، والثاني يشير إلى أن المعدلات ربما تكون حقيقية، إلا أن ثمراتها لا تذهب لعموم المصريين الذين يتزايد عدد الفقراء بينهم كل عام، الأمر الذي يفقد معدلات النمو المحققة أي قيمة حقيقية، ويعيد للأذهان عقوداً من الأنظمة الفاسدة، أزهقت أرواح المئات للتخلص منها، دون تحقيق أي تقدم ملموس حتى هذه اللحظة.

دلالات
المساهمون