الخريف في دوريس
ها قد أنشبتْ ريحُ أيلول
سهامَها في الأشجار،
وجمّدت النسغَ في أوراق النبات،
وهي علامة
على أن الفاكهة يجب أن تموت أثناء نومها.
ليس ثمة من يغرق في البحر سوى أرامل تشاميان
اللائي يغسلن سراويلهن في أشجان الخريف.
لا ريب أن المياه قد اغتذتْ على الرمال المغربَلة وصدأ السفن
قرب تلك السفينة التي ساقتها إلى السهلِ رياحُ السنة الفائتة
مثل رُفاتِ عاشقةٍ على سرير ريشٍ
حيث لن يأتي أحد لينام بعد الآن،
بل لن تأتي الأمواج التي تترنم مسعورةً بزئيرها المكتوم.
أتدثّرُ بالأوراق بينما أغوص متحسّراً مع ريش الطائر
وزنابق البحر اللازوردي والطحالب،
تحلُّ أرامل تشاميان ضفائرهن البيضاء فوق الينبوع.
***
ظهْرُ البحر
أَولى أهلي ظهورهم للبحر.
لديّ الهوى ذاته،
فقد أغرقتُ السفن،
أحدثتُ ثقوباً في جوانبها
ثم لذتُ بالفرار
إلى حيث الغيوم تلوح كالأسماك،
وكلّ قبرٍ مركبٌ كبير بشراع أبيض،
إلى حيث كلّ شجرة تُنبتُ الفاكهةَ في تكوراتها،
والسفن...
تغادر السفنُ
لأن أهلي أولوا ظهورهم للبحر
ولم يجْنوا
إلا قوتَ الأرض حلو المذاق
والشراب.
***
وحيد
محزنة هذه الوحدة مع كأسيّ نبيذ،
حصان أحمر وحصان أبيض.
لا شيء يشبه ما يبدو عليه ظاهرُه
حين كلُّ شيء ملك يمينك ولا خِلّ يشاركك.
ستمطر في القريب وستُغلَق الأبواب،
وأولئك الذين في الداخل ألِفوا بيوتهم، وليس ثمة من يؤنس وحدتي،
أمامي كأسا نبيذ، وحصان أسود في الإبريق،
كلّ شيء ملك يميني، ولا خِلّ يشاركني.
***
بوابة مفتوحة على البلقان
... هنا،
تعيش معي تلك الروح الساخرة كليّةُ الصمت،
دون مآثر وملامح، عند نهايات البحار،
خبيئة وراء النضارة كما سباتٌ بعد الموت،
في تضاعيفي تعيشين، يا الروحُ التي تشتمين الزمنَ،
والأفكارَ المعَدَّة للاستعمال مرة واحدة حين يقولها والداي
اللذان أضنتْهُما الأوهام،
أبسطُ يدي شغوفاً فلا أستشعر إلا الطبيعة،
وليس يد الإنسان المغلولة،
أمدّها وألمس الطبيعة وحدها،
الشعور العاصف بالوحشة،
ولا يزالون يصدقون الشمسَ إذ تُحمِّصُ الأرغفةَ الحلوةَ من خبز الصلصال،
تتقلّص المقدرةُ، يتبخّر الذهنُ، يصّاعدُ دخانه،
يتقيّأ الشعورُ
لعَطَنِ التمثال البشريّ عشيّةَ الميلاد؛
إلى حين يُبعَثُ في نيسان
ولا أخشى كتلةَ التراب الجبليّ البيضاءَ سالبةَ الألباب،
إذ تلوْحُ هزيلةً في داخلي، -
... عود...، مزمار...، دندنة...
القلنسوة الجامعية أعلى الرأس
واقٍ ذكريٌّ للدماغ مصنوعٌ من الصوف،
يملؤني بالرهبة، يقتلني الخوف منه، إلى هذه الدرجة أنا وحيد.
***
أكثر من القمر
لستِ تطلبين أكثر من القمر
وأنت تسندين رأسك في غبش المساء
ثم تنضمّين إلى مشهد النافذة.
بالنسبة إليّ
تأتين مكلَّلةً بغيوم بيضاء،
غلالاتٍ كالأجنحة، افترت شفتاك
قليلاً،
ولم تند الشفتان بكلمات
إنما بأريجٍ يذكّرني
بالليلك
في ذلك الصباح الذي التهمته أعيننا،
حتى لم أجد للنوم سبيلا
في ذلك الكوخ المقفر،
هناك تجمحُ الأغطية، وتنتفخ
في غيابك.
***
بطاقة بريدية
مرّرتُ إصبعي فوق اسمك
وشعرتُ بالألم،
للذاكرة براثن،
تصخبُ
على الشاطئ حيث قبّلتْ أقدامُنا
الأزهارَ التي لم تتفتّح في ذلك الشتاء من دونك،
اللظى الذي ازدردناه حتى ذابت أسناننا.
ها هي الأنهارُ ترحل لكي تُقرَّ عني للبحر
وهو العميمُ،
كان يومَ الأحد،
حين مرّرتُ إصبعي على اسمك.
إصبعي، بأظافره التي تجرح.
***
عيد الفصح على جزيرة هفار
يلتهم البحرُ البيوض الصدفية
ويكسر أسنانه على الضفاف:
هناك الجزر الملحية، الصبار السامّ،
إكليل الجبل وزيوت المصابيح
التي غادرت دون رجعة،
عرائس خطفتهن الريح،
عذارى نال منهن القراصنة.
تخطو روحي على سطح هذه المياه
التي رافقتني في حلمٍ ذات فصح.
ستةٌ من أبراج الأجراس: هللويا/ الشكر لله!
يحطم البحرُ البيوضَ الصدفية!
قد كسرتُ سناً لبنيةً
على كأس نبيذ مزّ.
الساعة السادسة. الناس في الكنيسة. البحر وأنا في الخلاء.
***
مخللات
عندما وُلدتُ
أهداني إلهٌ ما دميةً
"العبْ" قال. "حطّمها، لا تتعرّق!
يمكنك البدء بالأقدام،
ولو أن البدء بالعينين أفضل" يقول الرّبّ.
راحت اليدان مع الريح
رموش العينين مع الماء
القدمان مع الحجارة
الرأس مع الأشجار
وتساقطت
الأوراق لما عبثتُ بالقلب
والشفتين، وسُلقتْ الأصابعُ
على جُزرٍ مجهولةٍ لا ذِكْر لها في الخريطة.
ثم:
الحساب – السّعار – الفم – الدعابة – المغادرة – الانتظار – الوقوع ثم النهوض – العمود الفقري – اللون الرمادي – الشفة – الإلهام – الرجُل – البريد – الزجاجة – التدهور – الكبد – العزلة – البحر – الملك – الريح – الباب – الشتاء – الرئة ثم الوطن – الزجاج – العالم – البحبوحة – الفقر – الكِلية – السلحفاة – المنام – الحفرة.
عندما وُلدتُ
أهداني إلهٌ ما دُميةً هي
جسدي:
"ها أنا الآن أردّه إليك،
ذابلاً وواهناً ومُخرَّقاً،
مخدوشاً وممزَّعاً،
كيسَ عظام،
مُسلَّخاً وممسوحاً
بالعين الحاسدة
لم أستطع صونَه:
هل حقاً تصوغني، مولاي؟"
____________________________________________
في هذا البلد الهادئ
بدأ أريان ليكا (1966) عازفاً على آلة الفلوت بينما كان يكمل دراساته في الأدب الأوروبي. كان أول كتبه مجموعة قصصية بعنوان "في هذا البلد الهادئ حيث لا شيء يحدث" (1994).
انتقل الكاتب بعدها إلى كتابة الشعر، فنشر مجموعته الشعرية "قارب النعاس" (2000)، والتي أتبعها بمجموعة كتب، من بينها: رواية "ثعبان المنزل" (2002)، مجموعة شعرية بعنوان "تصحيحات" (الصورة) التي صدرت عام 2010. وهو يعتبر اليوم من أبرز كتّاب بلده ألبانيا.
*ترجمة أحمد م. أحمد