حصار اليرموك: أزرق

10 أكتوبر 2014
لقطة من الشريط
+ الخط -

في شريطه الوثائقي "أنا أزرق" (12 دقيقة و16 ثانية)، يحاول أبو غابي، أو محمد نور أحمد (1982)، العودة بذاكرته إلى مخيم اليرموك، حيثُ أمضى 30 عاماً، قبل أن يضطر إلى مغادرته نحو بيروت، بعد حصار المخيم على يد قوات النظام السوري.

يعتمد الوثائقي في أغلب مشاهده على عازف البيانو أيهم (1987) وأعضاء فرقته الغنائية، كشخصيات رئيسية من داخل المخيم. أما هدفه الأساسي فهو إيصال صوت سكان المخيم إلى العالم، عبر السينما.

ومن هذا المنطلق، لم يسعَ أبو غابي إلى إدهاش مُشاهد شريطه والتأثير عليه بلقطات صادمة بقدر ما حاول تسجيل شهادة حية، من داخل الحصار، لما يتعرّض له المخيم وأهله يومياً، وبالتالي لطبيعة الحياة فيه.

وفي هذا السياق تحضر تلك المشاهد التي يتقاطع فيها صوت الرصاص مع صوت الفرقة وهي ترافق البيانو بغنائها، وسط الأبنية المدمرة؛ مشاهد تدلّ على أن الحياة ما زالت ممكنة في تلك المساحة الجغرافية الضيقة.

يبدأ الوثائقي بمحادثة على "سكايب" بين أبو غابي وأيهم، ينقطع فيها الاتصال، ثم ننتقل إلى "مسرح بابل" في بيروت حيث يقول المخرج لنا: "مَن أنا لأقول لكم ما أقوله لكم"، قبل يبدأ بسرد تفاصيل حياته في المخيم، معيداً إحياء الذاكرة الفلسطينية في اليرموك، من خلال أسماء الشوارع: "لوبية"، "حيفا"، "يافا"... ومن السرديات التي تتضمنها اللقطات، نستنتج أيضاً أن الفيلم نتاج حلمٍ يومي؛ وهو ما يؤكده أبو غابي: "عنوان الفيلم، "أنا أزرق"، وقصته، ناتجان عن حلم يراودني كل يوم، أرى فيه أنني ما زلتُ في مخيم اليرموك، وأن الناس كان لونهم أزرق، وأن لوني أيضاً كان أزرق".

استغرق تصوير الوثائقي والعمل عليه ستة أشهر، بعد وصول مواده الخام إلى بيروت. وقد شكّلت طريقة استعراض هذه المواد، واختيار الأجزاء التي تلبّي غرض الفيلم، مصدر ألم لأبو غابي، نظراً إلى استرجاعه ذاكرته، في هذه العملية، واكتشافه تفاصيل المكان بصورة أخرى. وحول هذه المسألة يقول: "بحثتُ في الصور عن المكان الذي وُلدتُ فيه"، قبل أن يضيف: "لم أكتب نصاً للفيلم، إنما تحدثتُ عمّا كنتُ أشعر به وألمسه داخلي".

يعتمد الفيلم في بعض مشاهده على مقطوعة "مقدمة تسجيل دخول" للموسيقى الفلسطيني فرج سليمان. ويرى أبو غابي أن مشاركة هذا الأخير في عمله هي أشبه "بوثيقة موسيقية من فلسطين، لفيلم يتم تصويره عن مخيم اليرموك المحاصر". كذلك، لا يمكن اعتبار الفيلم نتاج عمل فردي، أو ثنائي. فصحيح أن إخراجه يحمل توقيع أبو غابي، إلا أنه تطلّب لإنتاجه تعاوُن أسماء فلسطينية كثيرة من اللجوء والمنافي.

فبالتصوير اضطلع عبد الله الخطيب من داخل المخيم، وبالسرد والإخراج أبو غابي من بيروت، وبالموسيقى أيهم والفرقة الغنائية من داخل المخيم، وبالموسيقى التصويرية فرج سليمان من حيفا. أما الإشراف الفني فكان لدانا أبو رحمة من أميركا، ولسامر رحمة من فرنسا.

إذن، يمكننا أن نستنتج من الأسماء المذكورة وأماكن توزيعها الجغرافي، أنها مزيج من الشتات الذي يعيشه الفلسطينيون منذ 1948، وأن الفيلم استطاع تقديم صورة موثّقة عن التفاعل الافتراضي بينهم.

ينجح الوثائقي، ببضع دقائق، في تقديم شهادة حية عن واقع المخيم المحاصر، فالمشاهد التي يتضمّنها لا تدلّ على أن شيئاً تغير فيه، رغم الخراب، والحصار. فالعلم الفلسطيني حتى اللحظة ما زال الراية الوحيدة التي تُرفع في تشييع الشهداء، والشباب ما زالوا متشبثين بارتداء الكوفية الفلسطينية، وجامع فلسطين ما زال حاضراً في الذاكرة.

وربما هذا ما نقرأه في كلام أبو غابي الأخير: "المخيم ليس جغرافيا، المخيم ليس بلوك وحجر، صحيح أننا خرجنا منه، وهناك من بقي فيه، لكننا نحمله معنا. المخيم في النهاية هو نحن".

المساهمون