حسين السوداني.. عن رحلة دي سوسير إلى اللغة العربية

07 ابريل 2020
(فرديناند دي سوسير، حوالي سنة 1900، Getty)
+ الخط -

ظلّت المباحثُ اللغوية، في كلّ ثقافات العالم، معياريّةً، تضع قواعدَ السلامة وتدعو إلى اتِّباعها وتحدِّد معايير الفَصاحة وتُهيب باحترامها. وإنْ كان ثمّةَ من وصفٍ فاستثناءٌ، لا يخلو من تمجيدٍ للغة المدروسة. ولم تكن المباحث عن الضاد بِدعًا، عبر تاريخها الطويل، بدءًا من نشوء مَدرَسَتَيْ الكوفة والبَصرة إلى مطلع عصر النهضة، وهو شأنُ جلِّ الدراسات عن اللغات الأوروبية وفيها.

واستمرّت هذه الحال إلى أن دشَّن العالِم اللغوي السويسري فردينان دي سوسير (1857 - 1913) لحظةً معرفيّة فارقةً، قَطعت مع النزعة المعيارية واتبعت المنهجَ الوصفي، ومن خلاله استُعيدَت بنيةُ اللغة الشكلية فحُلّلت أنظمتُها الصوتيّة والصرفية والدلالية ضمن "إمبراطورية العلامات" التي يَتحرّك في ثناياها الإنسان. وكانت سلسلةُ محاضراتِه، في علوم اللسان، والتي جمعها زَميلاه، شارل بالي (1865 - 1947) وألبار سيشيهاي (1870 - 1946)، وأصدَراها في كتاب "دروس في الألسنية العامة" (1916)، صدعًا بثورة معرفية عميقة، بالمعنى الإبستيمولوجي الذي أطلقه توماس كون (1922 - 1996) في كتابه "بنية الثورات العلمية"، بل وتغييرًا للنسق الفكري بِأكمله. وبعدها شاع فكرُ الرجل في رحاب الجامعات الغربيّة والعربيّة، وعن "الدروس" تفرَّعت سائر المدارس والتيّارات والمذاهب الألسنية طيلة القرن العشرين، إما تطويرًا لأطروحاته أو قطعًا معها وتأسيسًا لنظرات توليدية وذهنية وتوزيعية...

تلقّى العربُ أعمالَ دي سوسير في حقبةٍ متأخِّرة نسبيًّا، بعد أن تعاقبت عنها ستُّ ترجماتٍ، في تونس وسورية والمغرب... إمّا مباشرةً عن الأصل الفرنسي أو نقلاً عن الترجمة الإنكليزية. وابتَدأت مرحلةٌ جديدة في دَرس ظواهر لغتِنا، بعيدًا عن متون النحو ودواوين البلاغة وجَدل مَدارسهما. وغدا تأثيرُه التدريجي "انقلابًا حقيقيًا" في النظر إلى اللغة، وهو ما سعى الباحث التونسي حسين السوداني إلى تعقّب آثاره من خلال أطروحةٍ بعنوان "أثر فردينان دي سوسير في البحث اللغوي العربي" أعدّها تحت إشراف الأستاذ عبد السلام المسدي (1945)، أحد أكبر ناشري الفكر الألسني في عصرنا.

ينقسم هذا الكتاب، الذي صدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، منذ أشهر، إلى ستّة فصول مترابطةٍ: ففي الفصل الأول المُعَنْوَن: "دُروس سوسير بعد مائة عام"، بحَثَ السوداني عن تأثير هذا اللغوي في تغيير مناهج مقاربة الألسن البشرية، قطعًا مع المَنازع التطوّرية، خصوصًا المقاربة التاريخية الألمانية، عبر إرساء مفهوم "كُليّات اللغة" أو Universaux du langage، وهي الخصائص البنيويَّة العامّة التي تُميّز كلّ لغات العالم، التي تناهز الثمانيةَ آلافٍ، من دون استثناء، مثل التقطيع المزدوج ووجود الضمائر والصواتم وغيرها.

ويشكل الفصلُ الثاني، "من نشوئية المعرفة اللغوية العربية المعاصرة إلى اكتشاف فرديناند دي سوسير"، مَبْحَثًا تاريخيًّا عاد من خلاله حسين السوداني إلى تعقّب اتجاهات البحث اللساني لدى العرب طيلة القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، ربما بهدف بيان مدى هذا التأثير وقيْس المسافة المقطوعة بين المؤلّفات التأريخية والتقعيدية واستقرار الوصفيّة التي خصّص لها الفصلَ الثالث. وفيه استعادَ الظروف التاريخية والعلميّة التي أدّت إلى اكتشاف دي سوسير وبداية إدماج مقولاته في التفكير الألسني العربي.

وأما الفصل الموالي، فَخُصّص لِنَشأة المبحث الأسلوبي سواءً لدى خرّيجي لندن من المَشارقة أو لدى أساتذة المغرب العربي الذين انخرطوا في البحث اللساني وطفقوا يزاوجون بين التراث البلاغي العربي وما فيه من عميق النظرات، مثل تلك التي أزجاها شيخُ الصناعة عبد القاهر الجرجاني (1078)، وبين مُستحدَث النظريات الغربيّة. وقد كان هذا الطورُ الفكري طورَ جَمعٍ وتأصيل، لا يخلو من جرأةٍ، فُهِمَت خلاله نصوصُ الروّاد القدامى، أحيانًا بشيءٍ من الإسقاط والمغالطة.

واهتمَّ الفصل الخامس بـ"تَبلور الوعي باللّسانيات السوسيريّة"، عندما سعى العرب إلى تقديمها بشكل متّسق، يعرض مفاهيمَ علميّة استُفيدَت من دَرس اللغات البشريّة المتاحة، مثل اجتماعية الألسن والتمييز بين اللغة واللسان والكلام، وتأثير الأبنية الصوتية وقيمها الخلافية في نشأة المعنى...

وأمّا الفصل الموالي، فهو حفرٌ مُمتع في ظروف ترجمات كتاب سوسير "دروس في الألسنيّة العامة"، حيث ذكَّر الباحثُ بملابسات نقله إلى العربيّة والإشكالات الحادّة التي ظهرت أثناء استِحداث المصطلحات العربية المقابلة للمفاهيم الفرنسية. وختم الباحث كتابَه بفصلٍ عن النظريات السوسيرية الحديثة التي ظَهرت مطالعَ الألفية الثالثة وخصائص إطار تلقيها الجديد، بعد مضيِّ أكثر من قرنٍ على انبِجاسها.

وهكذا، يندرج هذا الكتاب الرصين ضمن الأعمال الباحثة في مسالك التّبادل الثقافي وما يطرَأ خِلاله من عمليات تكييف وتغيير، لا سيما حينما يتعلّق الأمر بنظريّةٍ عن اللغة. وربّما يكون تاريخ هذا التبادل قد اتّخذ مسلكًا مغايرًا إن قابلَ العربُ أعمالَ سوسير بالإهمال والتجاهل، نظرًا إلى ما يتضمّنه تراثُهم من نظراتٍ ثاقبة، تخيّلوا لعقودٍ أنها تُغنيهم عن كلّ فكر مستورد، كما استغنوا من قبلُ عن ترجمة التراجيديا والكوميديا اليونانيتين لغَنَاء الشعر، جاهليّه ومُوَلَّدِه، عنهما.

ولذلك ألحّ السوداني على كيفيات النفاذ التدريجي لآراء سوسير في مسارب الدرس اللغوي العربي المعاصر، كما تتبعّ، مُستأنسًا بالمنهج الإبستمولوجي، تاريخَ هذا النفاذ، رَاسِمًا سيرورَة الدراسات العربية التي "كان الانفتاح على اللسانيات السوسيرية أحدَ مياسمها"، كما يذكر الباحث. وقد جمع هذا المنهج بينَ المتابعة التاريخية التي تعود إلى الأوساط الثقافية وتدرس عناصرَها وتتعقّب مكوّناتِها، مثلما فَعَل في وصف التيارات اللغوية طيلة القرنيْن الماضيين، وبين المقارنة الزمنية التي تضع الموضوعات المدروسة ضمن صعيد واحد وتقارن بين وحداتِها، مثلما فعَل مع ترجمات كتاب سوسير مثلاً. وأخيرًا، حاول استقراءَ آليات التلقّي وطرائق تقبّل مفاهيمه، ضمن أوساط علماء العربية وأساتذتها ومتعلّميها.

ولعلَّ المزاوجةَ بين هذه المقاربات هي التي ساعدت على "مُحاصرة" التأثيرات التي مارستها "الدروس"، وقد صاغ من تلاقيها تأريخًا فكريًا متقاطعًا، ينكبُّ على تتبُّع تأثير فرعٍ معرفي مخصوصٍ، وهو هنا اللسانيات، في سائر قطاعات الفكر الإنساني، ويتعقّب مناشئَ العلم الموضوعي باللسان العربي، كتلك التي ساهم في إنضاجها سيبويه وابن جني والجرجاني والفيروزآبادي وابن خلدون وغيرهم. وهم الذين كانت لهم آراء ثاقبة، قُرِئ عَبْرها إرثُ سوسير نفسه، وهذا من المفارقات.

والظاهر أنّ السوداني استفاد أيضًا من المقولات الذهنية لنظرية التقبّل لدى كل من هانس ياوس (1921 - 1997) وإمبرتو إيكو (2016 - 1932) واستغلها في الإضاءة على آليات تلقّي عملٍ فكري وحيدٍ، لدى أجيالٍ وأوساطٍ ثقافية وبحثية متغايرة، والتفتيش في ما أحدثته من تحوّلات عميقة طاولت النموذج الذهني paradigme، كما شملت وسائلَ تعريب المفاهيم السوسيرية وتبيئتها ثمّ ما أسفرت عنه من نقاشاتٍ، كما تعرّض إلى الوسائط المادية والموارد البشرية المستخدمة في ذلك النقل.

وما أنْجِزَ عن سوسير، وقد قَلَب الدراسات الألسنية رأسًا على عَقب، يستأهل أن يُنجَز عن أصحاب الثورات المعرفية في عصرنا مثل دوركهايم في علم الاجتماع، ونيتشه في الفلسفة، وليفي شتراوس في الأنثروبولوجيا، وفوكو في حفريات المعرفة، وبارت في السيميولوجيا... ولكن، ينبغي أن يتحوّل هذا البحث ضرورةً إلى تفكيكٍ للعوامل التي جعلت من هؤلاء روّادَ قطائع وإلى فَضحٍ لما حيكَ من مُبالغات عن دورهم المعرفي. أليس هذا المنهج هو ما يرسّخ التفوّق الغربي ويؤيّد مركزيتَه في العالم؟ ألا تحجب مثل هذه الأعمال تأثيرات داخلية، ربما كان أثرها المعرفي أجلُّ وأخطر؟

ثمَّ إنَّ بحث السوداني عن أثر سوسير لدى الفئات المثقّفة والمتعلّمة يمكن أن يُكملَ بفتح أفُقِ التساؤل عن مدى حضور هذا الفكر لدى جمهور القرّاء عامّة، وفي نصوص الصحافة العربية، ولِمَ لا في وسائط التواصل الاجتماعي. ولعلَّ بحثًا ميدانيًا عن أثر نظريات هذا اللغوي لدى الساسة العرب مثلاً، من شأنه أن يبيّن أنَّ هؤلاء، وهم قارئٌ عادي وَسَط، غير معنيّين البتَّة بما طرأ في هذا الحقل المعرفي، فهم لا يطالعون مثل هذه الأنساق مع أنها يمكن أن تُفيدهم في تطوير الخطاب السياسي، وفي رصد تحوّل الدوال ومدلولاتها. نأمل أن يغدو سوسير من مراجع الخِطاب السياسي عند الساسة العرب.

المساهمون