تجاوزت تجربة الفنان حسين الأعظمي في فنّ المقام العراقي الأربعين عامًا. ووضع اسمه في مصاف المغنين المقاميين الكبار، إذ لديه بصمة جديدة، خاصة في الأداء والانتقالات السُلمية. غنى الأعظمي في حفلات المتحف البغدادي 1973، والتقى بالموسيقار منير بشير عام 1973، وغنّى أمام مطرب الأجيال المقامية محمد القبانجي عام 1974.
* قبل عشرة أعوام غادرت بلدك العراق، وكنت يومها مديراً لمعهد الدراسات الموسيقية في بغداد، ذهبت للاستقرار في الأردن، وعملت محاضرًا في المعهد الوطني للموسيقى، ما الذي دفعك إلى ذلك؟
هذا صحيح، كنت مديرًا لمعهد الدراسات الموسيقية في بغداد حين اتخذت قراري بمغادرة العراق. حصل ذلك عام 2005. فقد كنت مشاركًا في مؤتمر في عمّان، وعُرض عليّ التدريس في المعهد الوطني للموسيقى، لم أترّدد في الموافقة. وتعود سرعة استجابتي إلى قناعتي بأن الأوضاع الأمنية في العراق، لا توفّر بيئة مناسبة للإبداع. لكني عدت إلى بغداد بعد انتهاء المؤتمر، وقدّمت استقالتي إلى وزارة الثقافة وغادرت العراق، من دون أن أعود إليه منذ ذلك الحين. حين أنظر اليوم إلى الأمر، أرى أن قراري كان صائبًا إلى حدّ بعيد. فبعد مغادرتي بلدي، تغيّرتُ، إذ ازداد نشاطي الفنّي، كثرت الحفلات والمشاركات العربية والدولية. ومن ناحية أخرى ازداد نشاطي في ما يخصّ التأليف؛ فأنجزت في عمّان سبعة كتب، في حين لم أنجز قبل مغادرتي العراق سوى ثلاثة كتب.
* أنت ابن معهد الدراسات الموسيقية، طالباً أولًا ومحاضراً بعد ذلك، وأخيرًا صرت مديرا للمعهد في ظرف أقلّ ما يقال عنه إنه ظرف حسّاس. كيف كانت حال المعهد يوم تسلّمت إدارته بعد الاحتلال مباشرة؟
قبل الاحتلال الأميركي للعراق، كنت مديراً لبيت المقام. وبعد أن شُكّلت أوّل حكومة بعد الاحتلال، طلب مني وزير الثقافة آنذاك، مفيد الجزائري، أن أستلم إدارة المعهد الذي كان قد تعرّض لنهب وتخريب كبيرين. في البداية رفضت طلبه، لكنه أصدر قراراً بتعييني مديرًا. فقدّرت له ثقته في عملي وذهبت إلى المعهد. عندما وصلت إلى المعهد في أوّل يوم من عملي، لم أجد معهداً، بل وجدت بقايا معهد؛ لم يكن ثمة شيء، فلا أبواب ولا شبابيك ولا مقاعد ولا أدوات ولا طلاب، لم يكن يوجد إلا قطع عسكرية أميركية عند مدخل المعهد، لا عمل لها سوى بثّ الرعب في نفوس المارّة. جلست في ما يفترض أنه مكتب المدير، كان فارغًا إلا من طاولة وكرسي بسيطين. ولم يكن يعمل في المعهد وقتها سوى ثلاثة موظفين، حملوا على عاتقهم جمع الملفات التي تمّ رميها في الشارع خلال التخريب الرهيب. كان منظراً فظيعاً.
* فماذا فعلت أمام مشهد كهذا؟
بدأت أفكر في الطريقة التي يمكن عبرها أن أعيد فيها الحياة إلى المعهد الذي أسّس عام 1970. وكنت خائفاً فيما لو فشلت أن ينتهي الأمر بإغلاق المعهد نهائيًا، ما يعني خسارة صرح فنّي مهم. ثم تذكرت فجأة، أنني بعد مرور أشهر على الاحتلال الأميركي، فزت بجائرة عالمية متخصصة في التراث الحسّي غير الملموس، عن بحث كنت قدّمته بناءً على طلب من النظام السابق للمسابقة، فتوجهت إلى وزير الثقافة مفيد الجزائري وطلبت منه أن يرسل كتاباً إلى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسيكو)، يشير فيه إلى فوزي بالمسابقة، وإلى البحث الذي قدّمته وتحدّثت فيه عن الأضرار التي لحقت بالمرافق الثقافية والتراثية نتيجة للحصار والحرب، وأن يطلب من المنظمة المساعدة في حماية تلك المرافق. وهذا ما حصل فعلًا، فقد وصل الردّ من منظمة اليونيسكو التي قدّمت للمعهد مبلغ مائتين وخمسين ألف دولار. هذا المبلغ كان كافيًا كي أبدأ. تمّ عمل صيانة للمبنى، وعوّضت جميع النواقص التي طالها النهب والتخريب.
بعد ذلك بدأت المهمة الأصعب، وهي إعادة الطلاب، وقد احتاج الأمر وقتاً لا بأس به. ثم قام الوزير، بناءً على طلبي، بتعيين خمسة وأربعين عضو هيئة تدريسية في المعهد. كانت تلك المرة الأولى التي يصبح فيها للمعهد منذ تأسيسه هيئة تدريسية ثابتة. وكان لذلك أثرٌ إيجابي، فقد ساعد في استقرار المناهج التدريسية، إذ لم يكن لدى المعهد سابقًا مناهج ثابتة.
* واليوم، كيف تقيم المشهد الفنّي في العراق؟
المشهد مؤسف. أنا على اتصال دائم ومستمر مع زملائي من فنانين ومدراء المؤسسات الثقافية والفنية في العراق. جميعهم يشتكون من سوء الأوضاع الفنية نتيجة لحالة الانفلات الأمني التي تعيشها البلاد. في العراق، لم يعد للفنّ مكان. وأصبحت الموسيقى محرّمة، وغدت الآلات الموسيقية مطاردة. قبل أيام قليلة، وخلال اتصال هاتفي مع أحد أصدقائي الفنّانين، أخبرني بأن إحدى النقاط الأمنية صادرت الآلات الموسيقية من فنّانين كانوا متجهين لإقامة حفل في الهواء الطلق. وقال لي إن المسلحين هدّدوا الفنانين في حال أقاموا حلفهم الغنائي بمصاحبة الموسيقى، ونصحوهم بتقديم الأناشيد الدينية فقط. أشعر بالألم لما حدث. أنا لا أتخيّل كيف سيصبح العراق بلداً من دون موسيقى.
* أنت ابن عائلة متدينة، فكيف أصبحت مغنياً؟
صحيح أنني من عائلة متدينة، لكن كثيراً من أفراد عائلتي كانوا يؤدّون المقام العراقي. الفرق بيني وبينهم أنهم لم يقدّموا أنفسهم للجمهور كما فعلت أنا. وحقيقة لم أجد رفضاً من قبلهم لرغبتي. بيد أن لاحترافي غناء المقام، قصّة غريبة بعض الشيء.
* ما هي تلك القصّة؟
قبل أن ألتحق بمعهد الدراسات الموسيقية في عام 1973، سجّلت في المنتخب الوطني للمصارعة الرومانية، وأصبحت لاعباً على مستوى الجمهورية، وعندما التحقت بالمعهد واصلت ممارسة الرياضة، فكنت أغني وأصارع. استمرّ الأمر حتى عام 1975 عندما طلب مني الموسيقار منير بشير ترك المصارعة، قال لي "يابا شو إلك بالمصارعة أنت انخلقت حتى تكون مغني"، ووقتها كنت أؤدي الخدمة العسكرية الإلزامية، وهنا تدخّل بشير عبر علاقاته، فتمّ تسريحي من الخدمة العسكرية. وفي يوم اعتزالي لرياضة المصارعة، كنت عضواً في المنتخب الوطني الذي كان يستعد للمشاركة في بطولة في تركيا. وإذ لم يعد ممكنًا أن أسافر وأشارك كمصارع، أُرسلت كمغنٍ في جولة فنية على عدد من الدول الأوروبية.
* لكن أليس غريباً أن تجمع بين رياضة المصارعة العنيفة وغناء المقام الرقيق؟
لا أحد في الثقافة المجتمعية يفهم المصارعة الرومانية. هي أقدم الرياضات، وأستطيع أن أكتب مجلدا من ألف صفحة عن نزال واحد فقط. ففي المصارعة يوجد مليون احتمال. وكيف تفوز؟ هو السؤال. سؤال تتناسل منه أسئلة اخرى؛ أتعرف خصمك؟ هل تلتزم بتوجيهات المدرب؟ هل تتقن "المسكات"؟ المصارعة فنّ. أنت تجد أحيانًا مصارعاً يتمتع بقوّة بدنية تصيبه بالغرور، فيخسر أمام مصارع أضعف منه، لكنه يجيد رياضة الفنّ هذه. ففي المصارعة غالباً ما يفوز الفنّ أمام القوّة.
* لكنك لم تكتب في المصارعة، بل كتبت في فنّ المقام الذي أصبحت أحد أهم المؤرّخين له، ما حافزك للكتابة؟
في البداية، أنا لا أهتم كثيرًا بأن يقال عني إنني مؤلّف. بل أهتم أكثر بأن يقال مطرب المقام العراقي. بدأ اهتمامي بتأليف الكتب، بعد نشري مقالات بشكل منتظم في الصحف العراقية. ولمست في تلك الفترة تشجيعًا لما أكتب من قبل العديد من النقّاد والأصدقاء الذين اقترحوا عليّ التوجه صوب التأليف، وأذكر من بينهم الشاعر الغنائي الشعبي، حامد العبيدي، الذي كان قارئي الأوّل. وكان أوّل كتبي بعنوان "المقام العراقي إلى أين؟"، تطرّقت فيه إلى العولمة من دون أن أذكرها لو لمرّة واحدة في الكتاب، لم تأتِ العولمة إلى خاطري، لكنها كانت واقعًا حقيقيًا نعيشه ونعيش همومه. كان السؤال الرئيس الذي شغلني وقتها، هو كيف نستقبل القرن الحادي والعشرين بكلّ التكنولوجيا المخيفة والمرعبة؟ ماذا تريد منا؟ هل تريد إلغاء الخصوصيات الثقافية وتحويلها إلى فضاء ثقافي واحد؟ هل سينتصر الهاجس الغريزي للإنسان، أي العودة إلى الماضي والتمسّك بالتراث. حاولت في كتابي الأوّل الإجابة عن هذا السؤال.
* وكيف تلقّى الناس كتابك الأوّل هذا؟ كيف كانت الأصداء؟
كان الكتاب محلّ اهتمام النقّاد والمهتمين بفنّ المقام والمختصّين، لكن طاله الكثير من النقد الذي انصبّ بشكل خاص ورئيس على اللغة الصعبة التي استخدمتها، ما جعل فهم مضمونه أمرًا لا يخلو من صعوبة بالنسبة إلى القارئ العادي. نبّهني هذا إلى ضرورة تلافي تلك اللغة، وهو ما حاولت عمله في كتبي اللاحقة.
* خلال مسيرتك كمؤلّف، كيف استطعت تذليل العقبات، وخاصّة تلك العقبات المتصلة بالمصطلحات الموسيقية؟
صحيح، المصطلحات الموسيقية صعبة، أدرك هذا. ولهذا فأنا عندما أستخدم مصطلحاً في الكتابة أقوم بشرح معناه وما يدلّ عليه في الهامش، ليفهمه القارئ العادي. فأنا أسعى في مؤلّفاتي إلى تقديم دراسات فكرية موسيقية، الأمر الذي نفتقده في معظم كتبنا الموسيقية، فأنا أريد من خلال الكتابة أن أوضح للقارئ علاقة الفنّ بالتراث والحضارة.
* هل استندت في مؤلّفاتك إلى كتب التراث للاستفادة من المصطلحات التراثية مثلًا، مثل كتاب الموسيقى الكبير للفارابي؟
نادرًا ما استندت إلى الكتب القديمة كمصادر للمصطلحات؛ إذ إن المواضيع التي أتطرّق لها في كتبي لا تتقاطع مع المصطلحات التراثية. فأنا أكتب عن القرن التاسع عشر والقرن العشرين. أي أنني استحدثت شيئاً جديداً لا يحتاج العودة إلى التراث القديم. أنا أكتب وأحلّل ما أسمعه، أؤرخ للفترة التي بدأت عند اختراع جهاز التسجيل الصوتي. لذلك لدي اعتقاد بأن كلّ من سجّل أعماله من الفنانين، هم أصحاب الحظ الجيد، لأنهم دخلوا التاريخ. فبعد موتهم ما زلنا قادرين على الإصغاء إليهم وتحليل أغنياتهم. أما كلّ من كان قبل هذا المنعطف التاريخي، فهم سيئو الحظ للأسف، لأن أصواتهم ذهبت أدراج الرياح. أنا لا أنتقص هنا البتة من قيمة أحد منهم أو من عمله. بيد أنهم رحلوا من دون أن يبقى لدينا شاهد على عبقريتهم. أذكرهم في كتبي التي تُعنى بالتأريخ الموسيقي، من دون أن أغوص في الحديث عن عبقريتهم، إذ لا شيء أملكه لأثبتها.
* ما رأيك في معجم الموسيقى الصادر في القاهرة؟
قرأت المعجم، وبشكل خاصّ مقدّمته بقلم الناقد الراحل شوقي ضيف. وأعتقد أن أي كتابة في هذا الشأن، خطوة جيدة من حيث المبدأ، المعجم الموسيقي خطوة على طريق طويل، وأقدّرها جدًا.
* تصف نفسك بأنك "تلميذ مواظب" في مدرسة المقام، هل هذا تواضع؟
لا، ليس تواضعاً، بل حقيقة. أنا تلميذ وتلميذ تلاميذي، لا أدّعي الوصول إلى مرحلة الأستاذية. بل يعجبني أن أبقى تلميذًا مجتهداً يتعلّم كلّ ما هو جيد. لكن ما يؤرّقني حقيقة، هو الوقت. فأنا أشعر أن الوقت ليس في صالحي، لذا أجتهد وأحاول الإمساك بالوقت الثمين واستغلاله في الغناء والتأليف.
* من وصل إلى مرحلة الأستاذية في غناء المقام؟
أظن أن الفنّان محمد القبانجي حالة من الصعب أن تتكرّر. هو مطرب بكلّ المقاييس. لم أبالغ على الإطلاق عندما وصفته في كتبي بمطرب العصور المقامية، من دون التقليل من قيمة كثير من المغنين الذين أحترم عملهم.
* بعد أكثر من أربعين عاماً على احترافك غناء المقام، وانشغالك في تأريخه، كيف تنظر إلى هذا الفنّ اليوم، إلى أين يتجه؟
كنت أقول سابقاً إنّ فنّ المقام في خطر. لكنني اليوم أشعر للأسف أنه في طريق الانحسار، خاصّة في ظلّ الصعوبات التي يواجهها الفنّ في العراق عامّة. فنّ المقام عريق في بلادنا، وقد حافظ المغنون المسلمون عليه عبر التاريخ من خلال الأغاني الدينية، التي لولاها لانقرض هذا الفنّ، الذي ولد ثانية في القرن العشرين، وتنوعت مواضيع أغنياته، فغدا فيه قصائد حبّ وخمريّات وكذلك القصائد الصوفية. أجد نفسي اليوم أنا وزملائي الفنانين في دفاعنا عن فنّ المقام، كمن يحفر البئر باستعمال إبرة. مع ذلك لا يمكننا أن نستكين، فلو فعلنا، فإن كلّ شيء سينحسر ويذوي، ونحن لا نقبل انحسار تراثنا وذهابه في مهبّ الريح.
هذا صحيح، كنت مديرًا لمعهد الدراسات الموسيقية في بغداد حين اتخذت قراري بمغادرة العراق. حصل ذلك عام 2005. فقد كنت مشاركًا في مؤتمر في عمّان، وعُرض عليّ التدريس في المعهد الوطني للموسيقى، لم أترّدد في الموافقة. وتعود سرعة استجابتي إلى قناعتي بأن الأوضاع الأمنية في العراق، لا توفّر بيئة مناسبة للإبداع. لكني عدت إلى بغداد بعد انتهاء المؤتمر، وقدّمت استقالتي إلى وزارة الثقافة وغادرت العراق، من دون أن أعود إليه منذ ذلك الحين. حين أنظر اليوم إلى الأمر، أرى أن قراري كان صائبًا إلى حدّ بعيد. فبعد مغادرتي بلدي، تغيّرتُ، إذ ازداد نشاطي الفنّي، كثرت الحفلات والمشاركات العربية والدولية. ومن ناحية أخرى ازداد نشاطي في ما يخصّ التأليف؛ فأنجزت في عمّان سبعة كتب، في حين لم أنجز قبل مغادرتي العراق سوى ثلاثة كتب.
* أنت ابن معهد الدراسات الموسيقية، طالباً أولًا ومحاضراً بعد ذلك، وأخيرًا صرت مديرا للمعهد في ظرف أقلّ ما يقال عنه إنه ظرف حسّاس. كيف كانت حال المعهد يوم تسلّمت إدارته بعد الاحتلال مباشرة؟
قبل الاحتلال الأميركي للعراق، كنت مديراً لبيت المقام. وبعد أن شُكّلت أوّل حكومة بعد الاحتلال، طلب مني وزير الثقافة آنذاك، مفيد الجزائري، أن أستلم إدارة المعهد الذي كان قد تعرّض لنهب وتخريب كبيرين. في البداية رفضت طلبه، لكنه أصدر قراراً بتعييني مديرًا. فقدّرت له ثقته في عملي وذهبت إلى المعهد. عندما وصلت إلى المعهد في أوّل يوم من عملي، لم أجد معهداً، بل وجدت بقايا معهد؛ لم يكن ثمة شيء، فلا أبواب ولا شبابيك ولا مقاعد ولا أدوات ولا طلاب، لم يكن يوجد إلا قطع عسكرية أميركية عند مدخل المعهد، لا عمل لها سوى بثّ الرعب في نفوس المارّة. جلست في ما يفترض أنه مكتب المدير، كان فارغًا إلا من طاولة وكرسي بسيطين. ولم يكن يعمل في المعهد وقتها سوى ثلاثة موظفين، حملوا على عاتقهم جمع الملفات التي تمّ رميها في الشارع خلال التخريب الرهيب. كان منظراً فظيعاً.
* فماذا فعلت أمام مشهد كهذا؟
بدأت أفكر في الطريقة التي يمكن عبرها أن أعيد فيها الحياة إلى المعهد الذي أسّس عام 1970. وكنت خائفاً فيما لو فشلت أن ينتهي الأمر بإغلاق المعهد نهائيًا، ما يعني خسارة صرح فنّي مهم. ثم تذكرت فجأة، أنني بعد مرور أشهر على الاحتلال الأميركي، فزت بجائرة عالمية متخصصة في التراث الحسّي غير الملموس، عن بحث كنت قدّمته بناءً على طلب من النظام السابق للمسابقة، فتوجهت إلى وزير الثقافة مفيد الجزائري وطلبت منه أن يرسل كتاباً إلى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسيكو)، يشير فيه إلى فوزي بالمسابقة، وإلى البحث الذي قدّمته وتحدّثت فيه عن الأضرار التي لحقت بالمرافق الثقافية والتراثية نتيجة للحصار والحرب، وأن يطلب من المنظمة المساعدة في حماية تلك المرافق. وهذا ما حصل فعلًا، فقد وصل الردّ من منظمة اليونيسكو التي قدّمت للمعهد مبلغ مائتين وخمسين ألف دولار. هذا المبلغ كان كافيًا كي أبدأ. تمّ عمل صيانة للمبنى، وعوّضت جميع النواقص التي طالها النهب والتخريب.
بعد ذلك بدأت المهمة الأصعب، وهي إعادة الطلاب، وقد احتاج الأمر وقتاً لا بأس به. ثم قام الوزير، بناءً على طلبي، بتعيين خمسة وأربعين عضو هيئة تدريسية في المعهد. كانت تلك المرة الأولى التي يصبح فيها للمعهد منذ تأسيسه هيئة تدريسية ثابتة. وكان لذلك أثرٌ إيجابي، فقد ساعد في استقرار المناهج التدريسية، إذ لم يكن لدى المعهد سابقًا مناهج ثابتة.
* واليوم، كيف تقيم المشهد الفنّي في العراق؟
المشهد مؤسف. أنا على اتصال دائم ومستمر مع زملائي من فنانين ومدراء المؤسسات الثقافية والفنية في العراق. جميعهم يشتكون من سوء الأوضاع الفنية نتيجة لحالة الانفلات الأمني التي تعيشها البلاد. في العراق، لم يعد للفنّ مكان. وأصبحت الموسيقى محرّمة، وغدت الآلات الموسيقية مطاردة. قبل أيام قليلة، وخلال اتصال هاتفي مع أحد أصدقائي الفنّانين، أخبرني بأن إحدى النقاط الأمنية صادرت الآلات الموسيقية من فنّانين كانوا متجهين لإقامة حفل في الهواء الطلق. وقال لي إن المسلحين هدّدوا الفنانين في حال أقاموا حلفهم الغنائي بمصاحبة الموسيقى، ونصحوهم بتقديم الأناشيد الدينية فقط. أشعر بالألم لما حدث. أنا لا أتخيّل كيف سيصبح العراق بلداً من دون موسيقى.
* أنت ابن عائلة متدينة، فكيف أصبحت مغنياً؟
صحيح أنني من عائلة متدينة، لكن كثيراً من أفراد عائلتي كانوا يؤدّون المقام العراقي. الفرق بيني وبينهم أنهم لم يقدّموا أنفسهم للجمهور كما فعلت أنا. وحقيقة لم أجد رفضاً من قبلهم لرغبتي. بيد أن لاحترافي غناء المقام، قصّة غريبة بعض الشيء.
* ما هي تلك القصّة؟
قبل أن ألتحق بمعهد الدراسات الموسيقية في عام 1973، سجّلت في المنتخب الوطني للمصارعة الرومانية، وأصبحت لاعباً على مستوى الجمهورية، وعندما التحقت بالمعهد واصلت ممارسة الرياضة، فكنت أغني وأصارع. استمرّ الأمر حتى عام 1975 عندما طلب مني الموسيقار منير بشير ترك المصارعة، قال لي "يابا شو إلك بالمصارعة أنت انخلقت حتى تكون مغني"، ووقتها كنت أؤدي الخدمة العسكرية الإلزامية، وهنا تدخّل بشير عبر علاقاته، فتمّ تسريحي من الخدمة العسكرية. وفي يوم اعتزالي لرياضة المصارعة، كنت عضواً في المنتخب الوطني الذي كان يستعد للمشاركة في بطولة في تركيا. وإذ لم يعد ممكنًا أن أسافر وأشارك كمصارع، أُرسلت كمغنٍ في جولة فنية على عدد من الدول الأوروبية.
* لكن أليس غريباً أن تجمع بين رياضة المصارعة العنيفة وغناء المقام الرقيق؟
لا أحد في الثقافة المجتمعية يفهم المصارعة الرومانية. هي أقدم الرياضات، وأستطيع أن أكتب مجلدا من ألف صفحة عن نزال واحد فقط. ففي المصارعة يوجد مليون احتمال. وكيف تفوز؟ هو السؤال. سؤال تتناسل منه أسئلة اخرى؛ أتعرف خصمك؟ هل تلتزم بتوجيهات المدرب؟ هل تتقن "المسكات"؟ المصارعة فنّ. أنت تجد أحيانًا مصارعاً يتمتع بقوّة بدنية تصيبه بالغرور، فيخسر أمام مصارع أضعف منه، لكنه يجيد رياضة الفنّ هذه. ففي المصارعة غالباً ما يفوز الفنّ أمام القوّة.
* لكنك لم تكتب في المصارعة، بل كتبت في فنّ المقام الذي أصبحت أحد أهم المؤرّخين له، ما حافزك للكتابة؟
في البداية، أنا لا أهتم كثيرًا بأن يقال عني إنني مؤلّف. بل أهتم أكثر بأن يقال مطرب المقام العراقي. بدأ اهتمامي بتأليف الكتب، بعد نشري مقالات بشكل منتظم في الصحف العراقية. ولمست في تلك الفترة تشجيعًا لما أكتب من قبل العديد من النقّاد والأصدقاء الذين اقترحوا عليّ التوجه صوب التأليف، وأذكر من بينهم الشاعر الغنائي الشعبي، حامد العبيدي، الذي كان قارئي الأوّل. وكان أوّل كتبي بعنوان "المقام العراقي إلى أين؟"، تطرّقت فيه إلى العولمة من دون أن أذكرها لو لمرّة واحدة في الكتاب، لم تأتِ العولمة إلى خاطري، لكنها كانت واقعًا حقيقيًا نعيشه ونعيش همومه. كان السؤال الرئيس الذي شغلني وقتها، هو كيف نستقبل القرن الحادي والعشرين بكلّ التكنولوجيا المخيفة والمرعبة؟ ماذا تريد منا؟ هل تريد إلغاء الخصوصيات الثقافية وتحويلها إلى فضاء ثقافي واحد؟ هل سينتصر الهاجس الغريزي للإنسان، أي العودة إلى الماضي والتمسّك بالتراث. حاولت في كتابي الأوّل الإجابة عن هذا السؤال.
* وكيف تلقّى الناس كتابك الأوّل هذا؟ كيف كانت الأصداء؟
كان الكتاب محلّ اهتمام النقّاد والمهتمين بفنّ المقام والمختصّين، لكن طاله الكثير من النقد الذي انصبّ بشكل خاص ورئيس على اللغة الصعبة التي استخدمتها، ما جعل فهم مضمونه أمرًا لا يخلو من صعوبة بالنسبة إلى القارئ العادي. نبّهني هذا إلى ضرورة تلافي تلك اللغة، وهو ما حاولت عمله في كتبي اللاحقة.
* خلال مسيرتك كمؤلّف، كيف استطعت تذليل العقبات، وخاصّة تلك العقبات المتصلة بالمصطلحات الموسيقية؟
صحيح، المصطلحات الموسيقية صعبة، أدرك هذا. ولهذا فأنا عندما أستخدم مصطلحاً في الكتابة أقوم بشرح معناه وما يدلّ عليه في الهامش، ليفهمه القارئ العادي. فأنا أسعى في مؤلّفاتي إلى تقديم دراسات فكرية موسيقية، الأمر الذي نفتقده في معظم كتبنا الموسيقية، فأنا أريد من خلال الكتابة أن أوضح للقارئ علاقة الفنّ بالتراث والحضارة.
* هل استندت في مؤلّفاتك إلى كتب التراث للاستفادة من المصطلحات التراثية مثلًا، مثل كتاب الموسيقى الكبير للفارابي؟
نادرًا ما استندت إلى الكتب القديمة كمصادر للمصطلحات؛ إذ إن المواضيع التي أتطرّق لها في كتبي لا تتقاطع مع المصطلحات التراثية. فأنا أكتب عن القرن التاسع عشر والقرن العشرين. أي أنني استحدثت شيئاً جديداً لا يحتاج العودة إلى التراث القديم. أنا أكتب وأحلّل ما أسمعه، أؤرخ للفترة التي بدأت عند اختراع جهاز التسجيل الصوتي. لذلك لدي اعتقاد بأن كلّ من سجّل أعماله من الفنانين، هم أصحاب الحظ الجيد، لأنهم دخلوا التاريخ. فبعد موتهم ما زلنا قادرين على الإصغاء إليهم وتحليل أغنياتهم. أما كلّ من كان قبل هذا المنعطف التاريخي، فهم سيئو الحظ للأسف، لأن أصواتهم ذهبت أدراج الرياح. أنا لا أنتقص هنا البتة من قيمة أحد منهم أو من عمله. بيد أنهم رحلوا من دون أن يبقى لدينا شاهد على عبقريتهم. أذكرهم في كتبي التي تُعنى بالتأريخ الموسيقي، من دون أن أغوص في الحديث عن عبقريتهم، إذ لا شيء أملكه لأثبتها.
* ما رأيك في معجم الموسيقى الصادر في القاهرة؟
قرأت المعجم، وبشكل خاصّ مقدّمته بقلم الناقد الراحل شوقي ضيف. وأعتقد أن أي كتابة في هذا الشأن، خطوة جيدة من حيث المبدأ، المعجم الموسيقي خطوة على طريق طويل، وأقدّرها جدًا.
* تصف نفسك بأنك "تلميذ مواظب" في مدرسة المقام، هل هذا تواضع؟
لا، ليس تواضعاً، بل حقيقة. أنا تلميذ وتلميذ تلاميذي، لا أدّعي الوصول إلى مرحلة الأستاذية. بل يعجبني أن أبقى تلميذًا مجتهداً يتعلّم كلّ ما هو جيد. لكن ما يؤرّقني حقيقة، هو الوقت. فأنا أشعر أن الوقت ليس في صالحي، لذا أجتهد وأحاول الإمساك بالوقت الثمين واستغلاله في الغناء والتأليف.
* من وصل إلى مرحلة الأستاذية في غناء المقام؟
أظن أن الفنّان محمد القبانجي حالة من الصعب أن تتكرّر. هو مطرب بكلّ المقاييس. لم أبالغ على الإطلاق عندما وصفته في كتبي بمطرب العصور المقامية، من دون التقليل من قيمة كثير من المغنين الذين أحترم عملهم.
* بعد أكثر من أربعين عاماً على احترافك غناء المقام، وانشغالك في تأريخه، كيف تنظر إلى هذا الفنّ اليوم، إلى أين يتجه؟
كنت أقول سابقاً إنّ فنّ المقام في خطر. لكنني اليوم أشعر للأسف أنه في طريق الانحسار، خاصّة في ظلّ الصعوبات التي يواجهها الفنّ في العراق عامّة. فنّ المقام عريق في بلادنا، وقد حافظ المغنون المسلمون عليه عبر التاريخ من خلال الأغاني الدينية، التي لولاها لانقرض هذا الفنّ، الذي ولد ثانية في القرن العشرين، وتنوعت مواضيع أغنياته، فغدا فيه قصائد حبّ وخمريّات وكذلك القصائد الصوفية. أجد نفسي اليوم أنا وزملائي الفنانين في دفاعنا عن فنّ المقام، كمن يحفر البئر باستعمال إبرة. مع ذلك لا يمكننا أن نستكين، فلو فعلنا، فإن كلّ شيء سينحسر ويذوي، ونحن لا نقبل انحسار تراثنا وذهابه في مهبّ الريح.