حسان بورقية عنفوان الوجود في خراب العالم

21 يونيو 2016
من أعمال الفنان حسان بورقية (العربي الجديد)
+ الخط -
"الرغبة في استبقاء العابر والهش الذي لا يمكن محوه، حتى عندما تتساقط جدرانه ويرحل أهله، ولا تبقى منه غير بصمة يد أو قدم أو عرق جسد. هنا تصبح اللوحة أثر حب عندما يكون الحب بحاجة إلى "منفى""؛ هكذا يلخص حسّان بورقية علاقته الجمالية والشعرية بالعالم. وأنا أخاله كطرفة بن العبد الذي حين يقف على طلل خولة "يلوح له كباقي الوشم في ظاهر اليد". ليس ثمة ما يغري هذا الأديب المترجم الذي خبر فكر نيتشه ودريدا وإدمون جابيس، كتابةً وترجمةً، في العالم غير آثار الذاكرة المنسحبة من المرئي كي تستقر في عين الذاكرة. وليس ثمة ما يستهويه أكثر من آثار الخراب والأشياء المتلاشية واللّقى والأشياء المستعادة. فكل لوحة تكاد تكون ترجمة - وفناننا امتهن الترجمة - لثنايا العالم المرئي، وبحثًا مريرًا في أشلائه، وإعادة تركيب لبقاياه وشذراته الهاربة.

لا أدري كيف جاء حسّان للتشكيل، كنت أعرفه كاتبًا لأن الكتابة كانت تجمعنا. أخاله ظل يمارس شغفه في صمت وبعيدًا من الكل، حتى اكتشفناه فنانًا ناضجًا. وكان أول من اكتشفه بشكل جدي، الكاتب إدمون عمران المالح، ذلك المثقف النادر الاستثنائي الذي كان وراء اكتشاف فنان آخر ذي مزايا ليست بأقل استثنائية هو خليل الغريب.

يمارس حسان بورقية التشكيل بطريقة خصوصية تجعل منه أقرب إلى روح محيطه. إنه يبلور "اللوحة" من أتربة ومواد وعناصر وبقايا يلتقطها هنا وهناك في سياحاته الصوفية. وكأنه بذلك يفتح إطار اللوحة على ما يشكل الوجود الحي للكائن. اللوحة لديه ليست أصباغًا متناسقة ولا أشكالًا دالة على شيء ما، وإنما فضاء يحتوي مكونات العالم من تراب وأشياء. هكذا تتشكل اللوحة من نسغ الأرض ومن عرق الكائن. في تجاربه الأولى كان الفنان يبلور مساحات متراكبة تبدو وكأنها قشرة مقتطعة من الأرض. حبه للتراب ذو طابع صوفي يدفع به في حسيته إلى أن يجعله مادة وفرشة وسندًا. ولون الأتربة يحمل مكامن مصادرها، فحيثما حلّ حسان يحمل معه من تراب المكان وكأنه بذلك يحمل ذاكرة الأرض وذاكرة جسده المترحّل. هذا الاشتغال يجعل اللوحة ذاكرة محمولة وملونة بأصباغ موادها. إنها عملية مهما خطط لها الفنان، فإنها تبهره دومًا بتشكيلاتها ومفاجآتها. فالمادة تأخذ أحجامًا وتلاوين حين تجفّ، تكون غير تلك التي تمنحها وهي بليلة، والأوراق والأشياء التي تأتي من الأرض تغيّر تلاوينها مع الزمن.
هكذا يجد المرء نفسه أمام لوحة متحولة بفعل سيرورة تكوّنها كما بفعل الزمن عليها. وربما كانت هذه العلاقة مع الزمن هي التي تخترق الفكر الفني لبورقية. المادة بنت الزمن وخالقة له، والزمن لا يمكن الإمساك به وإنما فقط تفكيره. هذا ما عبّر عنه "تابييس" (Antoni Tapiès​)، فنان المادة بامتياز، بقوله: "يتفق الكل على أن كل فنان أصيل وحقيقي يكون ذا فكر عميق. لكن إذا لم ينْضفْ لهذا التفكير الصراع مع المادة، فإننا سنكتشف بسرعة أن الفنان المزعوم ذاك، لم يتقدم قيْد خطوة، وأن عمله لم يكن سوى هراء عقيم". الصراع مع المادة هو أيضًا صراع من أجلها، كي تنصاع وتطاوع اليد والعين والحواس. أو على الأقل هو صراع من أجل تملّك آثارها ودلالتها المتحولة.

حين يختار بورقية أن يدمج في صلب اللوحة رقائق تتآكل من الصدأ، وحين يدمج في تكوين اللوحة رماد وأشلاء سوق شعبي أتت عليه النيران في مدينته الجاثمة في سفح الجبل، فإنه يتبنى في عنصرين متنافرين هما الماء (الرطوبة) والنار. وإذا كانت النار تأتي على الأخضر واليابس بسرعة ولا تأتي على الصلب الصلْد من الأشياء، فإن الرطوبة تلتهم المواد تلك بتأنٍّ يخترق الزمن. ثمة إذن إيقاعًا وفي البرزخ بينهما يبلور الفنان تجربة الخراب والتلاشي باعتبارها منفى وإقامة في الآن نفسه. لكن هذا الازدواج هو في الحقيقة تعبير عن تلك الحساسية الرهيفة تجاه صيرورة الكائن. إنها تفكير مضمر في الموت باعتباره قضية الوجود الكبرى. ومن ناحية أخرى احتضان للذاكرة، باعتبارها سلسلة الغياب التي تحتضن حيوية الوجود.
ليس ثمة من حاضر وحضور لدى الفنان إلا بشكل كنائي مجازي. فما يهتم به هي آثار الغياب، أي تلك الحالة المتراكبة والمتشابكة التي لا معنى لها إلا بالعلاقة مع ما تحيل إليه. وبذلك فالصور التي يشتغل عليها لا توجد في اللوحة، وإنما في مخيلته هو كما في مخيلة المتلقي. وبهذا الشكل توجد اللوحة في تعلُّقها بهذين القطبين، ولا تأخذ دلالتها إلا في توارُد فكريْهما. 
تضج لوحات حسان بورقية بالحكايات الخائبة. إنها خيبة الحياة حين تتحول إلى رماد وأثر لا ينبئ إلا بالطابع المأساوي الذي تصخب به. كل عنصر يحمل في اللوحة حياته ومماته، زمنه وعدمه. وكل شيء يحكي عن تلك الخيبة التي تجعل الممات سيرورة امتداد للحياة. وبين هذا وذاك يرواح فكر الفنان، ويمارس مجاهدته الفكرية والجسمانية كي يبني لنا معنى هو نفسه منظور للخيبة. بيد أنها خيبة المقاوم الذي لا يني يمارس عَنَت المقاومة. هذا بالضبط ما سوف يجعله في السنوات الأخيرة يتوقف أمام أراضيه الخراب، ليعيد مساءلتها من برزخ آخر. بدأ الأمر ببناء نتوءات كثيرة تتجاوز الإطار الهندسي للوحة. وكأن اللوحة ضاقت بأثقالها الدلالية والمادية. ثم كان الخروج من اللوحة وعنها أمرًا محتومًا.

تبدأ القفزة من الداخل. كما لو أن الأمر يشبه خروج بطل "الوردة الحمراء القانية للقاهرة" الوسيم، من شاشة الشريط ليعيش حياته مع تلك المرأة العاشقة له في القاعة. تخرج المواد وتكبر وتتنوع وتتعدد، ويغدو الشغف بجمعها وترتيبها وإعادة الاشتغال عليها، وتأثيثها ومشْهدتها أكبر فأكبر. تُنسي هذه العملية الفنان في اللوحة، كما في الوقت وتزج به في لجة الزمن وفي الذاكرة العبقة للأشياء وفي المعنى الكلي للكون. يغدو المشغل قلعة العرض الأولى. إنه يمتص حياة الفنان ليخرجه من جديد إلينا، قريبًا، في معرض مرتقب عن الألم والحرب والدمار والأطلال وبشاعة البشرية اللاتُحتمل.
المساهمون