حسابات روسيا في الأزمة البيلاروسية: لا سيناريو أوكرانياً

19 اغسطس 2020
لوكاشينكو وبوتين يزرعان شجرة تخليداً للمرحلة السوفييتية (فرانس برس)
+ الخط -

مع استمرار موجة التظاهرات والإضرابات في عموم أنحاء بيلاروسيا للأسبوع الثاني على التوالي، تواجه روسيا خطر نشوء بؤرة توتر جديدة في الفضاء السوفييتي السابق، متخوفة من توجه مينسك نحو مزيد من التقارب مع الغرب في حال سقوط الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، الذي يتولى زمام السلطة في البلاد منذ أكثر من ربع قرن. ومع ذلك، ثمة مؤشرات تؤكد أن الدعم الروسي للوكاشينكو سيكون محدوداً ومشروطاً بعد أن ألحق مجموعة من الضربات الأليمة بالعلاقات الروسية البيلاروسية، بدءاً من توجهه نحو تطبيع العلاقات مع الغرب وخوضه حروباً نفطية طاحنة مع شركات النفط الروسية والتنصل من التكامل الاقتصادي مع روسيا، وصولاً إلى الواقعة الأخيرة لاحتجاز أكثر من 30 مواطناً روسياً للاشتباه بانتمائهم لشركة "فاغنر" العسكرية الخاصة. في هذا الإطار، يعتبر مدير عام مركز المعلومات السياسية بموسكو، أليكسي موخين، أن موسكو كانت تتوقع التطورات الجارية في بيلاروسيا بعد أن راهن لوكاشينكو على شركائه الغربيين الجدد، مرجّحاً في حديثٍ لـ"العربي الجديد" أن يقتصر دور موسكو على ضمان قانونية الوضع. ويستبعد موخين احتمال تكرار السيناريو الأوكراني في بيلاروسيا لجهة صعود سلطة جديدة معادية لروسيا، في حال سقوط النظام السياسي الحالي. ويضيف: "تنظر روسيا إلى التطورات البيلاروسية بشيء من الرصانة، وكان من الواضح من تصرفات لوكاشينكو وأعماله المعادية لروسيا التي توجت بتوقيف مجموعة من المواطنين الروس، أنه اختار شركاءً جدداً، فتبيّن أنهم ليسوا شركاء، بل دبّروا استفزازات ضده بعد الانتخابات الرئاسية. أما روسيا، فمن المرجح أنها ستؤدي دور الضامن لقانونية الوضع". ويرى أن "بيلاروسيا تتميز بدرجة عالية من الاندماج مع روسيا تصل إلى دولة الاتحاد بينهما، ولذلك يختلف واقعها السياسي اختلافاً كاملاً عن أوكرانيا".

القوى الغربية الكبرى لا تريد التدخل في الأحداث البيلاروسية

من جهته، توقع الأستاذ بالجامعة الأوروبية في سانت بطرسبورغ، إيفان ميكيرتوموف، عدم تدخل موسكو في بيلاروسيا إلا في حال قبل لوكاشينكو بشروطها، من دون استبعاد احتمال قبول موسكو بتغييره عن طريق "انقلاب القصر" أو إقامة العلاقات مع السلطة الجديدة وفق نموذج العلاقات مع أرمينيا التي شهدت تغييراً للسلطة في عام 2018. وفي مقال بعنوان "خيارات بوتين. ماذا يمكن لموسكو أن تفعل للوكاشينكو؟" نُشر بصحيفة "ريبابليك" الإلكترونية، لفت ميكيرتوموف إلى أن مؤسسات "الدكتاتورية البيلاروسية" فقدت مضمونها. ولم تعد حيلها ومناوراتها لها نفس التأثير السابق على المجتمع، متسائلاً حول مدى ولاء الأجهزة الأمنية للرئيس. واعتبر كاتب المقال أن عجز لوكاشينكو عن إصدار أمر مصيري للجيش والأجهزة الأمنية سيؤدي إلى إراقة الدماء لا يعود إلى خشيته من تداعيات العنف، وإنما إلى التخوف من عصيان المنفذين، مثلما خشي منه الرئيس الأوكراني المعزول، فيكتور يانوكوفيتش، أثناء تظاهرات ميدان كييف في عام 2014. ورأى أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يواجه معضلة مماثلة، إذ لا يمكنه السماح بسقوط لوكاشينكو وانكسار نظامه وظهور بيلاروسيا جديدة قد تسلك طريق دول البلطيق، أي لاتفيا وليتوانيا وإستونيا التي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي في عام 2004 وتتبنى مواقف معادية لموسكو في الملفات الدولية. أما الخيارات العدة المتوفرة أمام الكرملين للإبقاء على بيلاروسيا ضمن مجال النفوذ الروسي، فلخص ميكيرتوموف أولها في إجراء "انقلاب ناعم داخل القصر" على غرار تنحي الرئيس الروسي الراحل، بوريس يلتسين، ليلة رأس سنة 2000 وتعيين "بوتين البيلاروسي"، أي ضابط "كي جي بي" شاب تختاره موسكو خلفاً للوكاشينكو. أما جوهر الخيار الثاني فمتمثل في "الاحتلال الشقيق" على غرار التدخل السوفييتي في تشيكوسلوفاكيا السابقة (انقسمت عام 1993 إلى دولتي تشيكيا وسلوفاكيا) عام 1968، ثم الضم. ويسمح الخيار الأخير بوصول شخصيات جديدة إلى سدة الحكم، مثلما تم في أرمينيا مع استثمار اعتماد البلاد بشكل كامل على روسيا لمطالبتهم بالدرجة اللازمة من الولاء، وأخيراً محاولة الحفاظ على لوكاشينكو بشكله الحالي مهما كان الثمن. ومع ذلك، رأى كاتب المقال أن سيناريو بقاء لوكاشينكو سيكون أسوأ بكثير من "انقلاب القصر" أو "الاحتلال الشقيق"، كونه سيؤدي إلى تجميد الثورة وفقا للنموذج الفنزويلي مع بقاء الزعيم في مكانه مقابل هدم المجتمع والدولة.


فرضية "الانقلاب الناعم في القصر" تكبر في موسكو
 

من جهتها، تناولت وكالة "نوفوستي" الحكومية الروسية دلالات عزوف الغرب عن فرض عقوبات فعالة ضد بيلاروسيا واكتفاء وزراء خارجية بلدان الاتحاد الأوروبي يوم الجمعة الماضي، بالاتفاق على إعداد قائمة سوداء جديدة للمسؤولين البيلاروسيين، على عكس فرضهم عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا على خلفية تدخلها في أوكرانيا عام 2014. وفي مقال بعنوان "لماذا لا يتمنى الغرب سقوط ألكسندر لوكاشينكو؟"، تساءلت الوكالة عن أسباب عزوف أي من قادة الدول الغربية عن مطالبة لوكاشينكو بالتنحي الفوري عن السلطة وتسليمها للشعب المنتفض في الجمهورية الوحيدة المتحالفة مع روسيا على الاتجاه الغربي، لإلحاق الهزيمة به وجر البلاد إلى منطقة نفوذهم. وأرجعت كاتبة المقال تردد الغرب إلى مجموعة من العوامل، بما فيها الشروخ العميقة بين الولايات المتحدة وأوروبا القارية وبريطانيا وأخرى داخل الاتحاد الأوروبي، وهامشية بيلاروسيا قياساً بالسعي للتوصل إلى نوع من الإجماع حول القضايا الإستراتيجية الكبرى مثل الصين وروسيا، واختلاف المجتمع البيلاروسي عن مثيله الأوكراني من جهة قلة أنصار التوجه نحو التكامل مع أوروبا. وخلصت "نوفوستي" إلى أن القوى الغربية الكبرى لا تريد التدخل في الأحداث البيلاروسية إدراكاً منها أن فرص الفوز ليست بديهية، والمكاسب المحتملة مشكوك في جدواها، ولكن المشكلات والأعباء مضمونة بصرف النظر عن نتيجة الأزمة. وصبّ الاتصال الهاتفي بين بوتين والمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، لمناقشة الوضع في بيلاروسيا، أمس الثلاثاء، في هذا السياق، مع تشديد بوتين على رفض أي محاولات للتدخل الخارجي في الشؤون الداخلية البيلاروسية تؤدي إلى تصاعد الأزمة، معرباً عن أمله في تهدئة الوضع في أسرع وقت. يذكر أن بيلاروسيا تشهد موجة من الاحتجاجات الحاشدة منذ الإعلان عن فوز لوكاشينكو بنسبة 80 في المائة من أصوات الناخبين في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 9 أغسطس/آب الحالي، تخللتها وقائع الصدام مع أفراد الأمن وتفريق المحتجين بالعصى والغاز المسيل للدموع وقنابل الصوت، مما أسفر عن سقوط قتيلين وإصابة نحو 160 آخرين، وفق أرقام وزارة الصحة البيلاروسية. ومع توسع رقعة الاحتجاجات، قرر عمال عدد من المصانع الكبرى الإضراب عن العمل، بينما أعلنت المرشحة الخاسرة عن المعارضة البيلاروسية، سفيتلانا تيخانوفسكايا، عن استعدادها لتحمل المسؤولية عن البلاد وأداء دور الزعيم الوطني من أجل عودة الحياة إلى طبيعتها وإعداد قاعدة قانونية لتنظيم انتخابات رئاسية حقيقية ونزيهة وشفافة في أقرب وقت.

المساهمون