حزن "سري"... عائلات سورية تفقد أبناءها وتبكيهم في الخفاء

23 يوليو 2018
تقلصت أجواء الحزن على القتلى (عبد المنعم عيسى/فرانس برس)
+ الخط -

أنزل ستة شبان النعش من سيارة إسعاف، أتت من مستشفى تشرين العسكري بريف دمشق، إلى المسجد الواقع في حي دمشقي، ليُصلى على الشاب الذي قتل في درعا خلال الأسبوع الأول من يوليو/تموز الحالي، قبل دفنه في المقبرة القريبة. وباستثناء إخوة وأصدقاء القتيل، واسمه مصطفى ن (37 سنة)، لا تبدو معالم التأثر، ظاهرة على وجوه مئات المشاركين في التشييع. فمع تزايد الموت وكثرة القتلى، تتقلص أجواء الحزن في المجتمع دون أن تختفي، لتنحصر غالباً في المقربين جداً من المُتوفى.

وخلف المئات، الذين قدموا ليشاركوا في التشييع، انزوى أبو سامر (56 سنة) يبكي بحرقة واضحة. خُيل لبعض المشاركين بالتشييع أن أبو سامر يبكي مصطفى، الذي قُتل مع جيش النظام السوري، لكنه في الواقع، كما قال، كان يبكي ابنه سامر ف، الذي قُتل مع الجيش السوري الحر في درعا، في الأسبوع ذاته أيضاً، وهو مُضطر لإخفاء الأمر كلياً، خشية المُساءلة من قبل أجهزة الأمن. علماً أن سامر ومصطفى، جاران في الحي نفسه، وصديقان سابقان، قبل أن تُفرقهما الظروف، وتنتهي حياة كل منهما مقاتلاً على جبهتين مُتحاربتين، في بلد تصدعت فيه بنية المجتمع، الذي شهد انقسامات عامودية.

بصعوبة بالغة، وافق أبو سامر، أن يتحدث لـ"العربي الجديد" شرط ألا يُذكر اسمه الواضح، فثمة رعب في دمشق من الحديث لأي صحافة لا تنتمي لما يُسميه النظام بـ"الإعلام الوطني"، ويُقصد به الإعلام المؤيد بالمطلق نظام بشار الأسد. تحدث أبو سامر عن حزنه على ابنه، وعلى مصطفى أيضاً، فـ"مصطفى جارنا، وصديق ابني الشهيد سامر، وهو شاب شهم يحبه جميع أهالي الحي، وهو مثل ابني سامر، ثار منذ الأيام الأولى للثورة سنة 2011، ثم انكفأ عن ذلك بعد تسلحها. اختار ابني ترك دمشق لينضم إلى الجيش الحر، فيما وجد مصطفى أن يعود لحياته الطبيعية كعامل بناء، قبل أن يقتاده حاجز للأمن العسكري في دمشق، قبل سنة، إلى الخدمة الاحتياطية في الجيش". يتلعثم الخمسيني بينما يتحدث محاولاً بلع قهره. ويقول: "لم أكن أتخيل أن يقتلا في المكان نفسه في فترة متقاربة. سامر ابني، وكنت أجد في مصطفى واحدا من أبنائي أيضاً، لا أفرق بينهما، رغم علمي أن ابني قتل حيث كان يحارب عن قناعة، ومصطفى قتل في مكان اقتيد إليه قسراً، ولم يرغب في الهروب منه كي لا يقضي عمره ملاحقاً أو منفياً"، خاتماً حديثه القصير بأنه كان يأمل أن "يتم تشييع ابني كشهيد بطل. وأن أزور قبره الذي لا أعرف الآن إليه طريقاً".

حزن وقهر "سري للغاية"

في دمشق، شهدت أحياء كثيرة، منذ مارس/آذار 2011، تظاهرات ضد نظام الأسد، بلغت ذروتها خلال النصف الأول من سنة 2012، حيث شهدت أحياء مثل القابون، وبرزة، وجوبر، وكفرسوسة، والمزة، والميدان، وغيرها، تعاظماً بأعداد التظاهرات والمتظاهرين، وتكثيفاً بالمقابل للاعتقالات خلال عمليات مداهمات الأمن السوري للأحياء المنتفضة، بينما كانت بدأت بالتزامن حركة تدفق السلاح تتسارع في مناطق واسعة في طوق دمشق، خصوصاً بلدات ومدن الغوطة الشرقية وبلدات أخرى في الغوطة الغربية، ووادي بردى، والقلمون الشرقي والغربي، الأمر الذي دفع مئات الشباب في دمشق للابتعاد منها نحو محيطها، حيث قبضة النظام بدأت تتضعضع حينها.



قبل نحو عام ونصف العام، وخلال الأيام الأخيرة من سنة 2016، رن هاتف طارق د (40 سنة)، ليأتيه عبر صديق خبر مقتل شقيقه عدنان في معارك شرق حلب، الأمر الذي دفع أفراد أسرة طارق لترك منزلهم فوراً في دمشق، والعيش عند أقاربهم لشهرين، خشية أن يتوافد الأقارب والأصدقاء لتعزيتهم بمقتل ابنهم عدنان، و"تنفضح واقعة مقتله" مع الجيش السوري الحر. ويقول طارق، شقيق عدنان الذي قتل في حلب: "كان أخي في الخدمة الإلزامية بالجيش عندما بدأت الثورة، لكنه لم يحتمل البقاء عندما وردته أنباء المجازر التي يرتكبها الجيش والأمن في درعا وحماة وحمص وريف دمشق وغيرها. هرب من مدرسة المشاة التي كان يخدم بها، واختبأ عند صديق حلبي انشق قبله من الجيش في حي بستان القصر، إلى حين دخل الجيش الحر شرق حلب منتصف سنة 2012، فالتحقا معاً بأحد الفصائل العسكرية، وبقيا هناك حتى معركة شرق حلب الكبرى نهاية سنة 2016، حيث قُتل أخي في المعارك". ويضيف عدنان أنه قرر مع والده وبقية أفراد الأسرة "التكتم تماماً عن خبر مقتل أخي. الأجواء كانت مُحتقنة ومخيفة جداً في دمشق، ولدينا بعض الجيران الذين يعملون في الأمن، وخشينا أن يأتي أقاربنا وأصدقاؤنا للتعزية، وينتشر خبر مقتل أخي في الحي. قررنا ترك البيت لشهرين كاملين حتى لا نتعرض لأي مساءلة أو مضايقة من الأمن، فأنا كنت معتقلاً وأخي الصغير كذلك، والآن أخي قُتل مع الفصائل. هذا سيؤدي إلى تفاقم الإشارة الحمراء التي يضعها الأمن في سجلاتنا".

وقصة أسرة طارق د، التي قُتل ابنها في حلب، وأبو سامر ف، الذي قتل ابنه في درعا، واحدة من قصص كثيرة ربما تصل إلى الآلاف في دمشق وغيرها. ثمة أحزان مخفية لا يعلمها إلا المقربون جداً من أهالي عائلات قُتل أبناؤها أثناء قتالهم مع أحد الفصائل التي تحارب النظام السوري. عندما يرد نبأ مقتل ابن عائلة ما، فإن عليهم أن يتحملوا عبء مصائب مُجتمعة: فقدان الابن إلى غير رجعة، وإخفاء الأمر كلياً، خشية المساءلة الأمنية، ثم بعد ذلك ستبدأ مشكلة تسجيل وفاته قانونياً. وفي مقابل ذلك، فإنه عند مقتل أحد الشباب الذين اقتيدوا إلى الخدمة الإجبارية في جيش النظام، تُلصق "النعوات" في الشوارع، وتصفهُ بـ"الشهيد البطل". كما يُذاع خبر مقتله في المساجد، ويشيع من قبل الأهل والجيران والأصدقاء، ثم يقام بيت عزاء في المساء، ثلاثة أيام. ويحضر غالباً إلى جانب الأهل والأقارب والجيران والأصدقاء بعض شخصيات "الفرقة الحزبية البعثية"، كرسالة تحية لـ"الأسرة الوطنية" (المعنى الدلالي الرائج بدمشق وغيرها للأسرة المؤيدة نظام الأسد)، وبغض النظر عن حقيقة الموقف الدفين للأسرة.

في إدلب... تشابه مع عكس التفاصيل

لا تختلف الصورة كثيراً، مع عكس التفاصيل في المناطق غير الخاضعة للنظام السوري، كمحافظة إدلب، التي خرجت عن سيطرة النظام تدريجياً خلال السنوات القليلة الماضية، إذ إن بعض أبناء المحافظة ما زالوا يخدمون في قوات النظام، وعند مقتل أحدهم، تضطر عائلته إذا كانت لم تترك إدلب، إلى أن تتكتم عن الخبر، وتعيش حزنها داخل جدران المنزل فقط. ويؤكد الناشط في مجال شؤون المجالس المحلية في إدلب، يحيى صبيح، ذلك، إذ يقول إن "غالبية الأُسر، التي ما زال أبناؤها في الخدمة بقوات النظام، هجرت إدلب، لكن هناك عائلات يخدم أبناؤها حتى الآن في قوات النظام، وتقيم في إدلب. وإذا قُتل ابنها تتكتم بالغالب على الخبر، ولا تقيم له مجلس عزاء، فالمجتمع المحيط، لا يقبل ذلك إطلاقاً، كون القتيل فقد حياته وهو يخدم في الجيش الذي تحوم طائراته الحربية وطوافاته بشكل شبه يومي، وترسل صواريخ الموت إلى المدنيين في إدلب". لكن الناشط صبيح يفصل في الموضوع أكثر، إذ يقول إن "أسرة القتيل أو عائلته، ومدى حجمها ومكانتها اجتماعياً، تلعب دوراً في الأمر. في حال كانت للعائلة مكانة اجتماعية ما (مادياً أو عشائرياً مثلاً)، فمن الممكن ألا تتكتم الأسرة كثيراً على خبر مقتل ابنها، ويأتي المعزون المقربون لمنزل العائلة. كل هذا لا يعني أن المجتمع عموماً يتقبل الأمر".

قتلى... أحياء في السجلات الرسمية

لا تتوقف فاجعة الأُسر التي التحق أحد أبنائها أو أكثر، بأحد الفصائل المحاربة النظام السوري، عند مقتله وحسب، واضطرارها، إذا ما كانت تقيم حيث يسيطر النظام للتكتم على الأمر، فثمة مشكلة أخرى سيواجهونها لاحقاً، هي معضلة تسجيل وفاته قانونياً، خصوصاً إذا كان متزوجاً. وقتل راتب ش في معارك الغوطة الشرقية قبل 4 أشهر، بعد أن كان التحق بفصيل عسكري هناك. لم يكن بحسب شهادات من أهله وأصدقائه معجباً بالنظام إطلاقاً، ولديه في الوقت ذاته تحفظات ومخاوف من الفوضى بالثورة. كان الشاب الثلاثيني، يعمل بتوزيع المواد الغذائية، ويعيش مع زوجته وابنيه وأهله حياة طبيعية في دمشق، قبل أن يقتل الأمن السوري شقيقه أثناء محاولة الأخير الهرب من اقتحام الأمن حيهم على أطراف دمشق. ترك راتب بيته في اليوم التالي لمقتل أخيه، باحثاً عن الانتقام من القتلة. التحق بالجيش السوري الحر في ريف دمشق بداية، ثم تعاظم لديه دافع الانتقام، عقب اعتقال الأمن شقيقه الآخر لاحقاً، فتنقل بين عدة مجموعات باحثاً عن أشد أنواع الانتقام من النظام، ليقتل في النهاية، أثناء هجوم النظام على الغوطة الشرقية، وفق ما قاله لـ"العربي الجديد" شقيقه، الذي استقصى عن ملابسات مقتله من أصدقاء مشتركين، وأخبروه أنه قتل بـ"عملية فدائية".

وبنبرة، تبدو الحرقة واضحة فيها، يتحدث شقيقه فؤاد ش، لـ"العربي الجديد"، عن مقتل شقيقه راتب، قائلاً: "علينا أن نعاني المصيبة بعدة أوجه. فقدنا أخي إلى الأبد، وأخفينا الخبر، وأغلقنا باب منزلنا وعشنا لوحدنا القهر. والآن زوجة أخي تطالب بأن نقوم بتوفيته قانونياً، من أجل معاملة حصر الإرث". وتسجيل الوفاة قانونياً في مثل حالات عدنان د، الذي قتل في حلب، وراتب ش، الذي قتل في الغوطة الشرقية، وسامر ف الذي قتل في درعا، وغيرهم الآلاف ممن قتلوا في ظروف مماثلة، أو ثبت لدى الأهل مقتل ابنهم المعتقل لدى النظام، مسألة شديدة الصعوبة والتعقيد. إذ مع مضي أشهر أو سنوات، يكون من الضروري بالنسبة للأهل، أن يتم تسجيل وفاة ابنهم قانونياً، خصوصاً إذا كان متزوجاً، كي يتسنى لزوجته الزواج مجدداً لو أرادت، أو لتحصل على نصيبها من الإرث، في وضع اقتصادي مرير لمعظم الأسر. فتسجيل الوفاة قضية إجبارية بالنسبة إلى قضايا "حصر الإرث" وغير ذلك.

وفي مثل حالة مصطفى ن، الذي قتل مع جيش النظام في درعا، يبدو الأمر ممكناً ببساطة، إذ تسلم مستشفى تشرين العسكري شهادة وفاة للأهل، عند وصول الجثمان من الجبهات، إلى المستشفى. أما في حالات سامر ف، وعدنان د، وراتب ش، فأسرهم لا تجرؤ أساساً على إعلان خبر مقتلهم، فكيف سيذهبون إلى دائرة السجلات المدنية لتوفيتهم؟ وهم أساساً لا يملكون شهادة وفاة نظامية من مستشفى أو طبيب شرعي معتمد. كما أنه من المستحيل طلب تسجيل وفاته، في السجلات الحكومية، على أنه قتل مع من يسميهم النظام بـ"العصابات الإرهابية المسلحة"، وهو الاسم الذي يطلقه النظام على كافة الفصائل المسلحة التي تقاتله مهما كان توجهها. ويقول المحامي داوود س، لـ"العربي الجديد"، من دمشق، إنه وفي مثل حالات سامر ف، وعدنان د، وراتب ش، وحين يتيقن الأهل تماماً من مقتل ابنهم، سواء أكان معتقلاً لدى الأمن أو في حال كان التحق بأحد الفصائل العسكرية، فإن عليهم الانتظار أربع سنوات على الأقل، قبل أن يتوجهوا للقاضي الشرعي، ويتقدموا بطلب توفيته بحكم المحكمة، على أنه مفقود، انقطعت أخباره كلياً منذ ما يزيد عن أربع سنوات. ويضيف أن "الأهل لا يتلفظون بكلمة واحدة للقاضي، عن حيثيات وفاة ابنهم، أكان معتقلاً أو منشقاً عن قوات النظام أو أنه التحق بأحد الفصائل التي تقاتل الأسد، كون ذلك سيعقد موقفهم بالمحكمة". ويتابع أن "الأهل يكتفون برفع الدعوى على أن الشخص مفقود منذ ما لا يقل عن أربع سنوات، وبعدها يطلب القاضي شهوداً ليحلفوا اليمين بأنه لا تواصل مع الشخص المُراد توفيته قانونياً، قبل أن يدرس القاضي القضية، ثم يتخذ قراره إما بتوفية الشخص، أو بالانتظار سنة أو أكثر بحسب تقديره، ليعاد البحث في القضية، التي قد ترفضها المحكمة أيضاً".