حزب العمال يعيش أكبر أزماته: خطر التفكك وارد

20 فبراير 2019
استقالة النواب السبعة ليست إلا غيضاً من فيض (Getty)
+ الخط -
في خضمّ الأزمات الداخلية التي يعاني منها حزب "العمال" البريطاني، أعلن سبعة من نواب الحزب استقالتهم من صفوفه أول من أمس الإثنين، ونيتهم تشكيل تكتل مستقل في البرلمان يُعرف باسم المجموعة المستقلة. وعزا النواب السبعة استقالتهم إلى أسباب ظلّت موضع خلاف وشقاق في أكبر الأحزاب البريطانية المعارضة في السنوات القليلة الماضية وهي "بريكست" ومعاداة السامية. وفي ظلّ تعقّد المشهد السياسي البريطاني، ولا سيما في ما يتعلّق بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وضبابية موقف "العمال" وزعيمه جيريمي كوربن الذي ازدادت الانتقادات له داخل قواعد الحزب بسبب سياساته، تُطرح الكثير من الفرضيات عن ما يمكن أن يواجهه "العمال" من أزمات داخلية إضافية قد ينتج عنها مزيد من الانشقاقات والاستقالات.

وقالت لوسيانا بيرغر، وهي إحدى النواب السبعة المستقلين، في بيان الاستقالة "لقد استقلنا  جميعاً من حزب العمال. لقد كان القرار صعباً ومؤلماً جداً، ولكنه ضروري"، مضيفةً "نمثّل مناطق مختلفة من البلاد، ونأتي من خلفيات مختلفة، ونعود لأجيال مختلفة، ولكننا نشترك في القيم ذاتها".

وتعدّ معارضة زعيم الحزب، جيريمي كوربن، أهم هذه القيم التي تشترك فيها هذه المجموعة. فالاستقالة كانت منتظرة ومتوقعة، خصوصاً أنّ أعضاء المجموعة المستقيلة يعرف عنهم انتقادهم المتكرر لكوربن، سواء حيال دعمه لـ"بريكست"، أو تحالفاته الخارجية، أو حتى سياسته الاقتصادية. كما أنّ حزب "العمال" شهد تحولات كبيرة في السنوات الثلاث الماضية في عهد كوربن، إذ اتجه نحو الراديكالية اليسارية، والتي ساهمت فيها هيمنة حلفاء كوربن على مفاصل صنع القرار في الحزب.

فقد قال كريس ليزلي في بيان استقالته إنّ حزب العمال "تم اختطافه من قبل الآلة السياسية الخاصة باليسار الراديكالي". أما مايك غيبس، فقد وصف حزب "العمال" بأنّه تحوّل إلى "حزب عنصري معاد للسامية"، وأنه "غاضب من تواطؤ قيادة الحزب في بريكست". أمّا آن كوفي، فقالت إنّ الحزب "لم يعد المظلة الجامعة التي كانت" وأنّ "أي انتقاد للقيادة يتمّ الردّ عليه بعنف واتهامات بالخيانة".

أما كوربن نفسه، فقد خرج ببيان مقتضب بُعيد إعلان النواب السبعة انشقاقهم، ليعرب عن أسفه حيال قرارهم. وقال "أشعر بخيبة أمل، لأنّ هؤلاء النواب شعروا بعدم القدرة على مواصلة العمل معاً من أجل سياسات حزب العمال التي ألهمت الملايين في الانتخابات الأخيرة، وشهدنا زيادة أصواتنا بأكبر نسبة منذ عام 1945".

إلا أنّ استقالة النواب السبعة ليست إلا غيضاً من فيض. فبينما سادت الردود الانفعالية يوم الاثنين، تعدّلت اللهجة في اليوم التالي، نظراً للوضع الحرج الذي يعانيه "العمال". ففيما أعرب لين مكلاسكي، أقرب حلفاء كوربن، وأحد كبار الزعامات النقابية، أول من أمس الاثنين، عن ارتياحه، مطالباً النواب بالاستقالة من دوائرهم أيضاً، ومذكراً إياهم أنهم انتخبوا على قوائم "العمال"، خرج جون ماكدونيل، وزير المالية في حكومة الظلّ العمالية، وأحد المقربين من كوربن، أمس الثلاثاء، ليطالب بالإنصات إلى مطالب المحتجين.

ويأتي ذلك بعد أن حذّر نائب زعيم الحزب، طوم واطسون، كوربن، من أنه يجب أن يراجع طريقة إدارة الحزب وسياساته، وإلا فإنّ "العمال" سيواجه المزيد من الانقسامات والاستقالات. وكان النائب المستقيل، تشوكا أومونا، قد دعا كل من يرغب في "إصلاح السياسة البريطانية المعطوبة" إلى الانضمام إلى المجموعة المستقلة، في محاولة لتشجيع المترددين في صفوف "العمال"، وأيضاً من طرف المحافظين.

وكان أومونا قد شخّص مرض السياسة البريطانية الحالية في "عدم وجود حزب وسط يشكّل بديلاً لهيمنة الراديكالية اليمينية واليسارية" على قيادة أكبر حزبين بريطانيين. وقال في مقابلة أمس الثلاثاء "لا ننكر أننا نريد أن نقدم بديلاً جديداً. قد يكون حزباً جديداً. أو قد يكون حركة جديدة".

وكانت صحيفة "الغارديان" البريطانية كشفت عبر مصادرها داخل "العمال"، عن احتمال حدوث موجة أخرى من الاستقالات بين نواب الحزب، في حال عدم دعم الأخير رسمياً للاستفتاء الثاني على "بريكست"، واتخاذ خطوات حاسمة في التعامل مع معاداة السامية المنتشرة بين قواعد الحزب الداعمة لكوربن. وأشارت الصحيفة المقربة من "العمال"، إلى أنّ الموجة التالية ستكون من بين النواب الذين يواجهون خطر تخلي الحزب عنهم، لمعارضتهم لخط قيادة "العمال" الحالي.

ولا يخفى على أحد أنّ حزب "العمال" يعيش في أزمة عمرها على الأقل عشرة أعوام، كانت بداياتها مع توجه طوني بلير لغزو العراق، رغم معارضة حزبه، والأزمة المالية العالمية التي وجّه فيها الناخب البريطاني اللوم إلى الحكومات العمالية المتعاقبة منذ عام 1997. كما أنه لم ينجح الحزب في التعافي من الهزيمة الانتخابية عام 2010، لأسباب عدة أهمها فشل "الرؤية الثالثة" للاشتراكية التي تقدّم بها بلير في منتصف التسعينات، وكانت جزءاً من نزعة لدى الأحزاب اليسارية عالمياً بالتوجه نحو الوسط السياسي.

إلا أنّ روحاً جديدة قديمة بُثّت في قيادة "العمال" خلال الانتخابات الحزبية عام 2015، عندما وصل جيريمي كوربن إلى زعامة الحزب، معاكساً جميع التوقعات. ومخالفاً التوقعات أيضاً، استمر كوربن في منصبه، لا سيما بعد النتيجة الإيجابية التي حققها الحزب عام 2017، عندما نجح في حصد 40 في المائة من الأصوات وحرمان المحافظين من الأغلبية البرلمانية. وتمكّن كوربن وحلفاؤه في السنوات القليلة الماضية من فرض هيمنتهم التامة على الحزب، وفرض رؤيتهم على معارضيهم داخل صفوفه. وبينما كانت مقاربة يمين العمال (الأقرب إلى الوسط السياسي) حتى يوم الاثنين هي التعامل مع هذا التحدّي داخل صفوف الحزب، قد تفتح الاستقالات الأخيرة باباً جديداً أمام هذا التيار خارجه.

وستكون الخطوات التالية التي سيتخذها كوربن حيال "بريكست" ومعاداة السامية مفصلية في مستقبل "العمال". ولا يعدّ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي معضلة خاصة بحزب المحافظين الحاكم، بل إنّ "العمال" منقسم أشدّ انقسام حيال طريقة التعامل مع هذا الأمر. وحاول كوربن منذ الاستفتاء عام 2016 على عضوية الاتحاد الأوروبي، الموازنة بين جناحين متناقضين بين قواعده الحزبية، أكبرهما يدعم الاتحاد الأوروبي وصوت ضدّ "بريكست"، فيما الآخر ينتمي إلى المدن الصناعية السابقة، والتي صوتت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. وتوجّه هذه المدن اللوم إلى النظام السياسي الحالي، بما فيه العضوية في الاتحاد، حول تراجع مستواها المعيشي وتهميشها من قبل الحكومة المركزية في لندن.

أمّا كوربن نفسه، فيقابل الاتحاد الأوروبي بنظرة تسودها الريبة، إذ يرى فيه تجسيداً لنظام اقتصادي أمضى عقوداً في معارضته. ويرى أن مستقبلاً اشتراكياً لبريطانيا سيكون خارج الكتلة الأوروبية، حيث ستتمكّن من صياغة سياستها الخاصة. ولذلك، يسعى كوربن إلى توسيع القاعدة الشعبية للحزب، محاولاً إرضاء الطرفين المتناقضين بهدف الوصول إلى "10 داوننغ ستريت". إلا أن الوعود المتناقضة التي أطلقها وصلت لحظة الحقيقة، بعدما فشل "العمال" في سحب الثقة من الحكومة المحافظة الشهر الماضي. ووفقاً لمخرجات مؤتمر "العمال" السنوي، تعهّد كوربن بالإبقاء على كافة الخيارات متاحة في التعامل مع "بريكست"، بما فيها الاستفتاء الثاني. إلا أنّه تجنّب، حتى مع بقاء أربعين يوماً على "بريكست"، دعم خيار الاستفتاء الثاني، كي لا يخسر دعم القواعد العمالية المؤيدة للخروج من أوروبا.

ويضع ذلك أغلبية النواب العماليين في البرلمان أمام موقف مستحيل، حيث أنّ أغلبهم صوّتت دوائرهم لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي، ويرون في موقف كوربن تسهيلاً لـ"بريكست" المحافظين. بينما تكشف استطلاعات الرأي الأخيرة تراجع حظوظ "العمال" في كسب انتخابات عامة، بل وحتى إمكانية استعادة حزب المحافظين للأغلبية البرلمانية، وهو ما يقوّض من الدافع وراء سياسة كوربن الحالية.

أمّا المعضلة الأخرى المتمثلة في انتشار معاداة السامية في صفوف قواعد "العمال"، وخصوصاً المؤيدة لكوربن، فلا بد من توضيح نقطتين في سياقها. أولها أنّ معاداة السامية هي فكر عنصري يتسم بالتمييز ضدّ اليهود وكراهيتهم بشكل عام، وهي أساس مآسي اليهود في أوروبا والتي كان أكبرها جرائم النازية في حقهم. أما النقطة الثانية، فهي استغلال الاحتلال الاسرائيلي واللوبي المؤيد له مواقف كوربن المؤيدة للفلسطينيين وحقوقهم المشروعة، ووصفها على أنها معاداة للسامية، في محاولة للتقويض من تزايد الدعم الشعبي في بريطانيا لصالح فلسطين.

ويُعرف حزب "العمال" خلال تاريخه بأنه ملجأ الأقليات، ويمتلك بين أعضائه نواباً من اليهود البريطانيين. إلا أنّ التيار الشعبوي الذي وصل بكوربن إلى قيادة "العمال" يضم بين أفراده توجهاً معادياً للسامية، كانت إحدى ضحاياه النائب لوسيانا بيرغر، والتي تعرّضت للعديد من رسائل الكراهية والتهديد بالقتل. وسعت قيادة "العمال" خلال العام الماضي إلى التعامل مع معاداة السامية، خصوصاً عندما تبنّت تعريف منظمة ذكرى الهولوكوست لمعاداة السامية، والذي يعتبر إنكار حقّ إسرائيل بالوجود أحد وجوه العنصرية ضدّ اليهود. إلا أنّ المعضلة لم تصل إلى نهايتها، وكانت أحد أسباب استقالة المجموعة المستقلة عن "العمال" أخيراً.

المساهمون