عادةً ما تُخاض الحروب باستعمال الأسلحة العسكرية، واللجوء إلى الخطط، والقيام بالحملات الإعلامية الداعمة؛ التي تحتاجُ إلى قنوات متنوِّعة لتصريفها وضمان نجاحها، والتي تُعدّ الترجمة من بين ركائزها.
ويكفي أن نتذكَّر، مثلاً، العدد الكبير من مترجِمي أفراد الجيش الأميركي الذين شاركوا في غزو العراق، إضافة إلى الأعداد الهائلة من الأميركيّين المترجمين الذين وظَّفتهم، والذين تُكوِّنهم معاهدُها وجامعاتُها في مختلف اللغات، في سعي منها إلى اعتماد أبناء بلدها في الحصول على المُعطيات، أو في تصريف خطاباتها، إلى جانب اعتمادِها على أبناء البلد المُستهْدَف من متعاونين، وبذلك تكون الترجمة حاضرة فعلياً في الحرب.
لكنّ للترجمة حضوراً في واجهات أخرى، بعيدة على الحرب العسكرية. والحقيقة هي أنّ المترجمين، ومُنظِّري الترجمة، وحتى بعض المهتمين بها، يُقدِّمون صورةً عن هذه الممارسة لا تخلو من نُبل، إنْ لم نَقُلْ من سذاجة، عند تصوُّرِهم لها وتصويرهم إيّاها عمليّة مثالية، وتعبيراً عن التسامح، لسعيها إلى التقريب بين البشر، وبناءِ مجتمع التواصل، ولإظهارها الاعترافَ بالآخر عَبر مدّ الجسور بين الثقافات وعَقْد صِلات مع الآخرين، طالما أنها تَصْدُر في أساسِها عن المحبة والصداقة والتفاهم ونشر المعرفة بين الناس جميعاً، ويُحفِّز كلُّ ذلك ممارسيها على مواصلة الإبداع فيها، ويُحمِّس منَظِّريها ونُقّادها لمواكبة مُنجزاتها النصية.
لكنّ ما يُخفيه أولئك عن القُرّاء، أو ما لا يرغبون في إبرازه، هو أنّ عالم الترجمة لا يختلف في شيء عَمّا يعتمل في الحياة من أحوال ومشاكل وصراعات، بل إنه ميدان حقيقي لحروب طاحنة، نادراً ما تطفو على السطح، ومن أحدَثها تلك المفاجأة الكبرى التي باغتت بها العالَمَ شركةُ "أمازون" - المعروفة بتسويقها لبضائع متنوّعة - بطرحها لمحرِّك أتوماتيكي للترجمة، لتُنْهي به احتكار هذه الخدمة من قبل شركة "غوغل"، ممّا يعني إمكانَ اختيارِ كثير ممّا في العالَم من الشركات والمؤسّسات وغيرهما، بين إحدى الشَّرِكتيْن، وإمكانَ ظهورِ شركات كُبرى في مجال إعلامياتِ الترجمة تنافسهما مستقبَلاً.
وكي نبقى في مجال الشركات، لا يغيب عن ذهننا الصراع القوي بين وكالات الأنباء والفضائيات والصحف والمجلّات الكبرى في تزويد زُبُنِها بالجديد، عبر حصولِها على أحدث أخبار العالَم وأحداثه في شتى المجالات، بمختلف أنحاء المعمورة، وإجرائها حوارات مع متخصّصين وشخصيات بارزة، وتغطية مؤتمرات وملتقيات وإصدارات علمية وفنية وأدبية، وإنجاز تحقيقات حول ظواهر وقضايا ومشاكل، وكلُّ ذلك يستدعي التوافر على مكاتب للترجمة ذات مردودية عالية وسريعة بمترجِمين متميِّزين، الشيء الذي يجعل البارزين منهم موضِع إغراء متواصل من قبل هذه الوكالات، وهذا تَجَلٍّ لحرب من نوع خاص.
ويظهر الصراع قوياً في مجال الترجمة بين دور النشر في العالَم أجمع، خصوصاً عند فوز مؤلِّف بجائزة كُبرى؛ مثل نوبل أو غيرها، فَتُسارع هذه الدُّور إلى الحصول على حقوق نشْر ترجمة أعمال الأديب الفائز، وإلى التعاقد مع أجود المترِجمين، بقصد الحصول على الحق في الترجمة الحصرية، لنشر أعماله في لغتها، وإلى ضمان المترجِم الكفءِ والقادرِ على أنْ يُضاهي بترجمته، أي بإعادتِه كتابة نُصوصِ المؤلِّفِ الفائز، على أنْ يرتقي بالنص المترجَم إلى المستوى الذي يجعله يتفوّق أحيانا على ما يُعرَف بالأصل.
وتفتح الترجمة أحياناً حرباً كلامية وكتابية بين المؤلِّف ومترجِمه، لا تخلو من شراسة، فقد يصل كلٌّ منهما إلى ادعاء أنّ الطرف الثاني أفاد منه في التعريف به وانتشار اسمه، فكم مؤلِّفٍ يَذهبُ إلى أنّه لولا نصّه لَمَا عُرِف مترجِمُه، الذي اتَّخذَه مطيَّةً للبروز في حلبة الكتابة، وكم مترجِمٍ يُصرّ على أن قيمةَ ترجمتِه ونوعيتَها هما اللتان ضمِنتا الانتشار للمؤلِّف في غير ثقافته ولغته، وهي الحال التي تصدُق على المغربيَّيْن محمد شكري ومترجِم سيرته "الخبز الحافي" إلى الفرنسية؛ الطاهر بن جلّون.
ولا تختلف الحرب بين المؤلِّف والمترجِم عن تلك التي تُثار بصدد العلاقة بين النصين: الأصل والفرع؛ ولو أنه يُمكن تخيُّلُها حرباً من قِبَل الفرع على الأصل، الذي يطمح إلى تملُّك الأوَّل في غير ثقافته، بالحلول مكانه فيها، ويُمكن تبيُّنُ هذه الحرب في ما يُعرف بمجتمع المترجِمين نفسِه، في تلك الحروب التي تندلع، بين الحين والحين، بين المترجمين أنفسِهم؛ فما الترجمات المنجَزة للعمل الواحد إلى اللغة نفسِها، وفي فترة زمانية متقاربة سوى سعي اللاحقة منها إلى نسف السابقة، عوض أن تتّجه الجهود إلى ترجمة نصوص جديدة.
وتُعلِن تلك الحرب عن ذاتها حين يصل الأمر بمترجِم إلى أن يُعادي آخر، أو أن يؤاخذه على ترجمته لعمل مؤلِّف بعينه، فيُشنّع به أو يُقلّل من عمله، لأنه يعتبرُ ذاتَه الأحقّ بالترجمة لذلك المؤلِّف، لأنه على اتصال به، أو لأنه أوَّل من اكتشفَه وترجَم له، أو لأن لديه مشروعاً لترجمة أعماله الأخرى.
ولعل الواجهة الأخرى للحرب في مضمار الترجمة هي تلك التي تَحدث بين الدول ذات القوة الاقتصادية في أوروبا وأميركا، والتي ترصد ميزانية ضخمة للتشجيع على ترجمة أعمال أُدبائها ومفكِّريها إلى لغات العالَم، بغاية التعريف بذاتها ثقافياً، ولتُبرِز مكانَتها الأدبية والفنية والمعرفية. وتكونُ تلك المنح المرصودة للمترجمين محترَمة بحيث تفتح، كما هو معروف، حروباً حقيقية بين المترجِمين.