28 أكتوبر 2024
حركات مقاطعة إسرائيل... الأسئلة والتحديات والمشكلات
لا تهدف هذه المقالة إلى التوصل إلى إجاباتٍ حاسمة ويقينية، أمام تساؤلاتٍ يتعّين على حركة المقاطعة ضد الكيان الصهيوني الوقوف عندها، ومحاولة الإجابة عنها، بقدر ما تهدف إلى عرض المشكلات المختلفة التي تحيط بحركة (أو حركات) المقاطعة، والأسئلة التي تواجهها في عملها اليومي؛ بغية التوصل إلى مفاهيم وقواسم مشتركة، تعزّز من وحدتها، وتساعدها في تحقيق إنجازاتٍ أكبر وأوسع.
في البرنامج السياسي
لعلّ السؤال الأول يتعلق بالمدى الذي على حركات المقاطعة أن تصل إليه في تبنيها برنامجاً سياسياً موحداً يتضمن رؤيتها للمشروع الوطني الفلسطيني، في ظل تباين الاجتهادات بشأنه، وبشأن أهدافه وآلياته ووسائله، ومدى ضرورة ذلك لبرنامج المقاطعة، وأهميته، ونتائجه الإيجابية أو السلبية. وكيف يمكن أن نُجنّب هذه الحركات الانقسام حول ما إذا كانت مع حل الدولتين أو حل الدولة الواحدة؟ مع دحر الاحتلال من المناطق الفلسطينية المحتلة سنة 1967، أو تحرير كامل التراب الوطني؟ وما هو تعريفها للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني؟ وهل هي بحكم دعوات المقاطعة تقف في موقعٍ مناهضٍ للسلطة الوطنية الفلسطينية وسياساتها، وخصوصاً التي تتسم بطابع أمني أو اقتصادي؟ أم أنّ عليها أن تسعى إلى تحييدها ومحاولة التقاطع والتنسيق مع بعض الملامح التي قد تبدو إيجابيةً في الحراك الدولي؟
ماذا عن موقفها من الأدوات النضالية المختلفة التي يمارسها الشعب الفلسطيني؟ هل ينبغي أن يكون لها موقف مؤيد، أو ناقد أياً من هذه الأدوات والوسائل، مثل الكفاح المسلح أو العمليات الفدائية؟ بل هل من مهمة حركات المقاطعة أن تُقدّم مشروعاً تفصيليًا يتضمن رؤيتها لحل القضية الفلسطينية؟ أم أنّ من مصلحة حركة المقاطعة العالمية، وفي ظل عدم تبلور مشروع وطني فلسطيني موحد، وتعثّر جهود السلام، أن تتجنب الإجابة عن هذا السؤال، وأن تتجاوز ذلك كله، مركّزة جهدها وبرامجها على فضح ممارسات الكيان الصهيوني من احتلال، وقمع، وتشريد، واستيلاءٍ على الأراضي، واستيطان، وجدار عازل، وتمييز عنصري، وشنه الحروب وملاحقة مجرميه، من دون الدخول في تفاصيل برنامج سياسي بشأن المشروع الوطني الفلسطيني، قد يُسبّب انقسامات وتبايناتٍ عديدة في صفوفها، ويُضعف الزخم القوي لحركات المقاطعة؟
ومن هنا، لعلّ أول تحدٍّ يواجه حركات المقاطعة هو الفصل بين برامجها وأهدافها، وبين برامج
بعض الناشطين في صفوفها، أو برامج الفصائل والأحزاب والجماعات التي تؤيدها، وتشارك في نشاطاتها، ولها رؤيتها الخاصة، فلا تنعكس هذه الرؤية والبرامج على برنامج المقاطعة ككل، أو تُسبب نزاعًا بين الفرقاء المختلفين على قضايا تفصيلية، بحيث يتمّ تغليب الفرع على الأصل، وتضعف بذلك حركة المقاطعة نفسها. بعبارةٍ أخرى، على حركات المقاطعة، وهي تقوم بنشاطاتها، أن تتمثل مفهوم الجبهة الوطنية المتحدة، في الاتفاق على قواسم جامعة مشتركة بين العاملين في صفوفها أو المؤيدين لها، بحيث يتمّ التوافق على نقاط الاتفاق، وهي المتعلقة ببرنامج المقاطعة الأساسي، ونبذ نقاط التباين أو الخلاف حول البرامج والأفكار والأهداف الفرعية الخاصة بكل طرف.
استراتيجية المقاطعة
السؤال الرئيس، هنا، ما إذا كانت المقاطعة تشكّل استراتيجية متكاملة، وقادرة بذاتها على تحقيق الحقوق الوطنية الفلسطينية، أم هي جزء من استراتيجيةٍ أشمل وأوسع؟ هل يُنظر إليها بصفتها الأسلوب الوحيد الناجح، مع غياب قدرة الوسائل الأخرى على تحقيق إنجازات ملموسة؟ أم هي أسلوب نضالي يتكامل مع وسائل وأساليب أخرى، لتحقيق الأهداف الفلسطينية؟ أهمية هذا السؤال في أنّ بعضهم بات يرى فيها استراتيجيةً متكاملةً، وأسلوبًا وحيدًا قادرًا وحده على تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني وأمانيه، معتقدًا أنّه في تجربة جنوب أفريقيا تمكّنت المقاطعة من هزيمة نظام الفصل العنصري القائم، مع ما يفتقده ذلك الكلام من دقةٍ، إذ إنّ نضالات المؤتمر الوطني الأفريقي شملت أشكالًا مختلفة من النضال، وفي مقدمتها الكفاح المسلح والنضال السياسي والجماهيري، كما أنّ طبيعة النظام الجنوب أفريقي تختلف كليًا عن طبيعة الكيان الصهيوني، ففي فلسطين، لا نواجه فحسب سياسة استغلال وتمييز عنصري، حيث يُشكّل ذلك وجهًا ثانويًا للكيان الصهيوني، في حين يبقى وجهه الرئيس متمثلًا في أنه استعمار استيطاني إحلالي، يستهدف إحلال اليهود الصهاينة مكان السكان العرب الأصليين، وتهجيرهم وطردهم من بلادهم.
المقاطعة جزء مهم ورئيس في استراتيجيةٍ أشمل وأوسع، تشمل تحقيق عزلة الاحتلال على المستويين، العربي والدولي، والإعراب عن التضامن معه، لكنّها بالأساس تستهدف دحر الاحتلال واستعادة الحقوق الوطنية المشروعة للشعب العربي الفلسطيني.
أهداف المقاطعة
يلخص بعضهم أهداف المقاطعة بأنّها تستهدف تحقيق عزلة إسرائيل في المجتمع الدولي، وفضح سياسات الاحتلال والتمييز وجرائمه، وإلحاق خسائر بشركاته ومؤسساته والشركات الداعمة له، وتشمل المقاطعة المجالات السياسية والاقتصادية والأكاديمية والحقوقية والإعلامية.
هنا، قد تُثار بضع أسئلةٍ، منها، هل يمتد مدى المقاطعة من إسرائيل، باعتبارها دولةً محتلةً ومغتصبةً للحقوق الفلسطينية إلى الصهيونية كحركة عنصرية؟ أو ما هو المدى الذي يمكن أن نصل إليه في تجزئة بعض الأهداف الجزئية وقبولها جزءاً من برامج المقاطعة؟ فعلى سبيل المثال، ثمّة من يدعو إلى مقاطعة بضائع المستوطنات الصهيونية المقامة على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967، ويناضل من أجل تحقيق هذا الهدف الجزئي، في حين قد يرى آخرون أن التركيز على هذا الهدف يتجاهل باقي المعاناة والحقوق الفلسطينية، ويرون فيه خدمةً لبعض البرامج التي لا يوافقون عليها بالضرورة.
وينطبق ذلك على الموقف ممّن يتجهون إلى المقاطعة، لرفضهم سياسات التمييز والإقصاء
والتهميش التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني، ويرون، على سبيل المثال، الجدار العازل جداراً للفصل العنصري، من دون أن يدركوا أنّه أيضًا تكريس لاحتلال أراضي الغير، وتعبير عن سياسة قضم الأراضي الفلسطينية، أو بأولئك الذين يقاطعون، لرفضهم الاحتلال الصهيوني الأراضي العربية المحتلة سنة 1967، من دون أن يلتفتوا تماماً إلى سياسات التمييز والاقتلاع التي تمارس في باقي فلسطين.
ثمّة أهداف مختلفة للمقاطعة، قد لا يتفق عليها تماماً الناشطون في حركاتها، خصوصًا لدى الناشطين الأجانب الذين قد يفضلون التركيز على جانبٍ دون آخر، في مناهضتهم السياسات الصهيونية، ويرجع هذا إلى اختلاف رؤيتهم للمشروع الوطني الفلسطيني، أو الممكن تحقيقه منه، وكذلك لاختلاف برامج منظماتهم وأحزابهم ونقاباتهم، وأيضًا آرائهم السياسية الشخصية.
أظنّ، هنا، أنّه ينبغي الحذر من إقحام هؤلاء الأصدقاء في التفاصيل الصغيرة، أو في الخلافات والآراء الفلسطينية المتباينة، أو في المواقف المختلفة ممّا يجري من أحداثٍ في منطقتنا العربية، كالموقف من الربيع العربي، أو وضع هذا النظام أو ذاك.
ينبغي إدراك أنّ حركات المقاطعة، وهي تحشد أنصارها في الخارج، لا تستهدف بناء حزب سياسي، يخضع أعضاؤه لبرنامجه، ويلتزمون به، كما أنّ عليها أن تحترم البرامج المختلفة للمؤسسات المتعاطفة مع قضايا الشعب الفلسطيني، وأنّ تدرك أنّ القضية الفلسطينية تُشكّل جزءًا يسيرًا من برامج هذه المؤسسات، المنشغلة بقضايا وطنها بشكل أساسي، وأن تقبل بالحد الأدنى الممكن التوافق معه، في برامج هذه المؤسسات، في وقتٍ تسعى فيه إلى تطويره عبر الحوار والعمل المشترك، من دون أن تناصبها العداء، بدعوى أنّ مقاطعة منتجات المستوطنات تتضمن اعترافًا ضمنيًا بإسرائيل على سبيل المثال، كما أنّ عليها أن لا تتدخل في خلافاتها الداخلية، أو أن تنحاز إلى موقفٍ مع بعضها ضد بعضٍ آخر، كما أنّ عليها الانتباه من الانجرار خلف بعض الجهات المعادية لإسرائيل، ذات التوجهات الفاشية أو النازية، من اليمين الأوروبي أو الغربي، بدعوى أنّ هذه الجهات تعادي الصهيونية أو إسرائيل، إذ تتناقض دوافعها المضادة للسامية، جذرياً، مع أهداف المقاطعة النبيلة.
من المهم، في هذا المجال، أن نُفكّر دومًا كيف نوسّع من جبهة الأصدقاء، وأن تُساهم حركات المقاطعة في تشكيل أوسع جبهة عريضة من المتضامنين الأجانب مع قضية الشعب الفلسطيني بكل جوانبها واتجاهاتها.
في العالم العربي
ثمّة أسئلة مختلفة في العالم العربي تجابه حركات المقاطعة، كما أنّ المهمات، هنا، قد تتسع،
بعض الشيء، نتيجة أن العالم العربي ساحة صدام رئيسة مع المشروع الصهيوني، ولعلّه نابع أيضًا من افتراض أنّ القضية الفلسطينية مركزية للأمة العربية، وأنّ ثمّة محاولات صهيونية مستمرة لاختراق الوضع العربي، وتهدف إلى ضمان دور إسرائيلي مباشر ومؤثر فيه، ضمن محاوره المتصارعة، ضمن منظومة ما يُعرف بالسلام الدافئ، وامتزاج المال العربي بالقدرة اليهودية.
ليست المقاطعة هنا إجراءً تضامنيًا، أو تعبيرًا مجرّدًا عن التأييد للشعب الفلسطيني، وشجب الممارسات الصهيونية ضده، بقدر ما هي إجراء دفاعي لحماية الذات العربية من محاولات الاختراق الصهيونية. من هنا، يرتبط مفهوم المقاطعة بمفهوم آخر، هو مقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني، بل ويصبح جزءًا رئيسيًا من برامج القوى السياسية والنقابية والشبابية ومؤسسات المجتمع المدني، ويتداخل، بشكلٍ كامل، مع السياسات الداخلية في هذه الأقطار، ويُشكّل محورًا أساسيًا فيها، ويؤثر على مدى تأييد الأنظمة العربية المختلفة أو معارضتها. بل هو جزء من فعاليات هذه القوى في مواجهة تغلغل المشروع الصهيوني، ضمن دولها، ومنع التطبيع معه بكل أشكاله وصوره، بحيث تصبح المقاطعة ومقاومة التطبيع مهمة داخلية، ضمن البرنامج السياسي لهذه القوى، وليست تعبيرًا عن مجرد تضامن أو تأييد.
ولعل الأسئلة نفسها التي تواجه حركات المقاطعة في الخارج، من حيث ضرورة التوصل إلى قواسم مشتركة بين الحركات المختلفة، وتجنب النزاعات فيما بينها، والتصنيفات السلبية الناجمة عن الاختلاف حول قضايا محلية أو إقليمية، تؤثر أو تمنع التعاون بين هذه الجهات، فتبدو المقاطعة أضعف، وإمكانية الاستفراد بمنظماتها أو محاصرة نشاطاتها أقوى.
على أن النقطة المهمة، هنا، تكمن في تعريف ما هو التطبيع، من دون شطط فيه أو تهاون، ومن دون إلقاء الاتهامات جزافا، أو التماهي مع سياسات الدول، ويشمل ذلك قضايا مثل زيارة القدس بتأشيرة سفر إسرائيلية، أو القيام بنشاطاتٍ ثقافية أو فنية في الأراضي المحتلة، وغيرها من قضايا ما زالت محل خلاف، ومكاناً لإلقاء التهم والتراشق بها.
لكن، ثمّة جانب لا يقل أهميةً عن تعريف ماذا يعني التطبيع مع العدو الصهيوني بالنسبة للأفراد أو المؤسسات، وهو تطبيع الحكومات والعلاقات السياسية التي تنمو بينها وبين الكيان الصهيوني، بعد توقيع دولتين عربيتين على اتفاقات سلام معه، وسعي العدو الدائم إلى دور جديد في العالم العربي، في ظل أزمات الإقليم المشتعلة، وهو ما ينقل نشاطات المقاطعة ومقاومة التطبيع إلى أفقٍ أوسع، ويستلزم التعاون والتنسيق بين منظماتها، في داخل القطر الواحد، وبين الأقطار العربية مجتمعة.
في الأرض المحتلة
تخضع فلسطين كلها للاحتلال، وهي، في الوقت الذي تعاني فيه من الاحتلال، فإنّ مناطق أخرى تخضع للحصار، مثل قطاع غزة، في حين تواجه المناطق المحتلة منذ سنة 1948 سياسات التمييز والتهميش والاستيلاء على الأراضي، وفرض يهودية الدولة على المجتمع العربي، بما يتضمنه ذلك من طابع عنصري واضح، يضع سياسات التمييز العنصري، في إطار قانوني.
وفي المناطق العربية المحتلة، تواجه سياسة المقاطعة ومقاومة التطبيع تحدياتٍ كبرى، منشأها ربط هذه المناطق بالسياسات الاقتصادية الإسرائيلية، وضرب كل مقومات الاقتصاد الوطني، والاتفاقات المبرمة ما بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني، وحصارها، كما هو في غزة، حيث تشكل المعابر الإسرائيلية مع القطاع المنفذ الوحيد المفتوح، والخاضع لرقابة صهيونية مباشره على حركة انتقال السلع والبضائع من القطاع وإليه.
من البديهي، في مثل هذه الظروف، أن تشكل كل مقاومة للاحتلال مقاومةً للرضوخ لإرادته والقبول بشروطه، أو التطبيع معه، من مقاومة الاحتلال نفسه إلى التصدّي لسياساته العنصرية ومستوطناته وجداره العازل ومنتجاته. وفي ظل ذلك، السؤال الرئيس الذي يطرح على حركات المقاطعة يتمثل في ابتكار الأشكال والوسائل النضالية المناسبة، في ظل الظروف المشار إليها.
لا يمكن أن تنفصل المقاطعة ومقاومة التطبيع في داخل الأرض المحتلة عن تحديد أليات التعامل مع السلطة الفلسطينية، وممارسة الضغوط عليها، من أجل وقف (أو تقليص) أوجه التعاون المختلفة مع العدو أمنيًا وسياسيًا واقتصاديا، وتعزيز مؤسسات المجتمع المدني وخوض النضالات الجماهيرية، وتوحيد قواها وتعزيز مقومات دعم الصمود، لكي يمكن تنفيذ إجراءات مقاطعةٍ فعالة، مثل وقف العمالة الفلسطينية في إسرائيل، أو تعزيز الإنتاج الوطني، لكي تمكن مقاطعة الصناعة أو الزراعة الإسرائيلية، وهي مهماتٌ قد تتجاوز قدرات حركات المقاطعة في الداخل، وتتطلب حشدًا لمختلف القدرات الفلسطينية والعربية.
تشكل حركات المقاطعة، وإلى حين توفر ظروف أفضل، نبضًا للعالم وتعبيرًا عن ضميره الحي، وهي مهمةٌ كبرى، تثير عشرات الأسئلة عمّا تمّ القيام به، وما ينبغي فعله، وتضع أمام حركات المقاطعة، ومجمل القوى السياسية الفلسطينية والعربية، بل والمجتمع الدولي بأسره، مزيداً من التحديات من أجل دحر الاحتلال، وتحقيق الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، والتخلص من الاستعمار الصهيوني الإحلالي على أرض فلسطين.
في البرنامج السياسي
لعلّ السؤال الأول يتعلق بالمدى الذي على حركات المقاطعة أن تصل إليه في تبنيها برنامجاً سياسياً موحداً يتضمن رؤيتها للمشروع الوطني الفلسطيني، في ظل تباين الاجتهادات بشأنه، وبشأن أهدافه وآلياته ووسائله، ومدى ضرورة ذلك لبرنامج المقاطعة، وأهميته، ونتائجه الإيجابية أو السلبية. وكيف يمكن أن نُجنّب هذه الحركات الانقسام حول ما إذا كانت مع حل الدولتين أو حل الدولة الواحدة؟ مع دحر الاحتلال من المناطق الفلسطينية المحتلة سنة 1967، أو تحرير كامل التراب الوطني؟ وما هو تعريفها للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني؟ وهل هي بحكم دعوات المقاطعة تقف في موقعٍ مناهضٍ للسلطة الوطنية الفلسطينية وسياساتها، وخصوصاً التي تتسم بطابع أمني أو اقتصادي؟ أم أنّ عليها أن تسعى إلى تحييدها ومحاولة التقاطع والتنسيق مع بعض الملامح التي قد تبدو إيجابيةً في الحراك الدولي؟
ماذا عن موقفها من الأدوات النضالية المختلفة التي يمارسها الشعب الفلسطيني؟ هل ينبغي أن يكون لها موقف مؤيد، أو ناقد أياً من هذه الأدوات والوسائل، مثل الكفاح المسلح أو العمليات الفدائية؟ بل هل من مهمة حركات المقاطعة أن تُقدّم مشروعاً تفصيليًا يتضمن رؤيتها لحل القضية الفلسطينية؟ أم أنّ من مصلحة حركة المقاطعة العالمية، وفي ظل عدم تبلور مشروع وطني فلسطيني موحد، وتعثّر جهود السلام، أن تتجنب الإجابة عن هذا السؤال، وأن تتجاوز ذلك كله، مركّزة جهدها وبرامجها على فضح ممارسات الكيان الصهيوني من احتلال، وقمع، وتشريد، واستيلاءٍ على الأراضي، واستيطان، وجدار عازل، وتمييز عنصري، وشنه الحروب وملاحقة مجرميه، من دون الدخول في تفاصيل برنامج سياسي بشأن المشروع الوطني الفلسطيني، قد يُسبّب انقسامات وتبايناتٍ عديدة في صفوفها، ويُضعف الزخم القوي لحركات المقاطعة؟
ومن هنا، لعلّ أول تحدٍّ يواجه حركات المقاطعة هو الفصل بين برامجها وأهدافها، وبين برامج
استراتيجية المقاطعة
السؤال الرئيس، هنا، ما إذا كانت المقاطعة تشكّل استراتيجية متكاملة، وقادرة بذاتها على تحقيق الحقوق الوطنية الفلسطينية، أم هي جزء من استراتيجيةٍ أشمل وأوسع؟ هل يُنظر إليها بصفتها الأسلوب الوحيد الناجح، مع غياب قدرة الوسائل الأخرى على تحقيق إنجازات ملموسة؟ أم هي أسلوب نضالي يتكامل مع وسائل وأساليب أخرى، لتحقيق الأهداف الفلسطينية؟ أهمية هذا السؤال في أنّ بعضهم بات يرى فيها استراتيجيةً متكاملةً، وأسلوبًا وحيدًا قادرًا وحده على تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني وأمانيه، معتقدًا أنّه في تجربة جنوب أفريقيا تمكّنت المقاطعة من هزيمة نظام الفصل العنصري القائم، مع ما يفتقده ذلك الكلام من دقةٍ، إذ إنّ نضالات المؤتمر الوطني الأفريقي شملت أشكالًا مختلفة من النضال، وفي مقدمتها الكفاح المسلح والنضال السياسي والجماهيري، كما أنّ طبيعة النظام الجنوب أفريقي تختلف كليًا عن طبيعة الكيان الصهيوني، ففي فلسطين، لا نواجه فحسب سياسة استغلال وتمييز عنصري، حيث يُشكّل ذلك وجهًا ثانويًا للكيان الصهيوني، في حين يبقى وجهه الرئيس متمثلًا في أنه استعمار استيطاني إحلالي، يستهدف إحلال اليهود الصهاينة مكان السكان العرب الأصليين، وتهجيرهم وطردهم من بلادهم.
المقاطعة جزء مهم ورئيس في استراتيجيةٍ أشمل وأوسع، تشمل تحقيق عزلة الاحتلال على المستويين، العربي والدولي، والإعراب عن التضامن معه، لكنّها بالأساس تستهدف دحر الاحتلال واستعادة الحقوق الوطنية المشروعة للشعب العربي الفلسطيني.
أهداف المقاطعة
يلخص بعضهم أهداف المقاطعة بأنّها تستهدف تحقيق عزلة إسرائيل في المجتمع الدولي، وفضح سياسات الاحتلال والتمييز وجرائمه، وإلحاق خسائر بشركاته ومؤسساته والشركات الداعمة له، وتشمل المقاطعة المجالات السياسية والاقتصادية والأكاديمية والحقوقية والإعلامية.
هنا، قد تُثار بضع أسئلةٍ، منها، هل يمتد مدى المقاطعة من إسرائيل، باعتبارها دولةً محتلةً ومغتصبةً للحقوق الفلسطينية إلى الصهيونية كحركة عنصرية؟ أو ما هو المدى الذي يمكن أن نصل إليه في تجزئة بعض الأهداف الجزئية وقبولها جزءاً من برامج المقاطعة؟ فعلى سبيل المثال، ثمّة من يدعو إلى مقاطعة بضائع المستوطنات الصهيونية المقامة على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967، ويناضل من أجل تحقيق هذا الهدف الجزئي، في حين قد يرى آخرون أن التركيز على هذا الهدف يتجاهل باقي المعاناة والحقوق الفلسطينية، ويرون فيه خدمةً لبعض البرامج التي لا يوافقون عليها بالضرورة.
وينطبق ذلك على الموقف ممّن يتجهون إلى المقاطعة، لرفضهم سياسات التمييز والإقصاء
ثمّة أهداف مختلفة للمقاطعة، قد لا يتفق عليها تماماً الناشطون في حركاتها، خصوصًا لدى الناشطين الأجانب الذين قد يفضلون التركيز على جانبٍ دون آخر، في مناهضتهم السياسات الصهيونية، ويرجع هذا إلى اختلاف رؤيتهم للمشروع الوطني الفلسطيني، أو الممكن تحقيقه منه، وكذلك لاختلاف برامج منظماتهم وأحزابهم ونقاباتهم، وأيضًا آرائهم السياسية الشخصية.
أظنّ، هنا، أنّه ينبغي الحذر من إقحام هؤلاء الأصدقاء في التفاصيل الصغيرة، أو في الخلافات والآراء الفلسطينية المتباينة، أو في المواقف المختلفة ممّا يجري من أحداثٍ في منطقتنا العربية، كالموقف من الربيع العربي، أو وضع هذا النظام أو ذاك.
ينبغي إدراك أنّ حركات المقاطعة، وهي تحشد أنصارها في الخارج، لا تستهدف بناء حزب سياسي، يخضع أعضاؤه لبرنامجه، ويلتزمون به، كما أنّ عليها أن تحترم البرامج المختلفة للمؤسسات المتعاطفة مع قضايا الشعب الفلسطيني، وأنّ تدرك أنّ القضية الفلسطينية تُشكّل جزءًا يسيرًا من برامج هذه المؤسسات، المنشغلة بقضايا وطنها بشكل أساسي، وأن تقبل بالحد الأدنى الممكن التوافق معه، في برامج هذه المؤسسات، في وقتٍ تسعى فيه إلى تطويره عبر الحوار والعمل المشترك، من دون أن تناصبها العداء، بدعوى أنّ مقاطعة منتجات المستوطنات تتضمن اعترافًا ضمنيًا بإسرائيل على سبيل المثال، كما أنّ عليها أن لا تتدخل في خلافاتها الداخلية، أو أن تنحاز إلى موقفٍ مع بعضها ضد بعضٍ آخر، كما أنّ عليها الانتباه من الانجرار خلف بعض الجهات المعادية لإسرائيل، ذات التوجهات الفاشية أو النازية، من اليمين الأوروبي أو الغربي، بدعوى أنّ هذه الجهات تعادي الصهيونية أو إسرائيل، إذ تتناقض دوافعها المضادة للسامية، جذرياً، مع أهداف المقاطعة النبيلة.
من المهم، في هذا المجال، أن نُفكّر دومًا كيف نوسّع من جبهة الأصدقاء، وأن تُساهم حركات المقاطعة في تشكيل أوسع جبهة عريضة من المتضامنين الأجانب مع قضية الشعب الفلسطيني بكل جوانبها واتجاهاتها.
في العالم العربي
ثمّة أسئلة مختلفة في العالم العربي تجابه حركات المقاطعة، كما أنّ المهمات، هنا، قد تتسع،
ليست المقاطعة هنا إجراءً تضامنيًا، أو تعبيرًا مجرّدًا عن التأييد للشعب الفلسطيني، وشجب الممارسات الصهيونية ضده، بقدر ما هي إجراء دفاعي لحماية الذات العربية من محاولات الاختراق الصهيونية. من هنا، يرتبط مفهوم المقاطعة بمفهوم آخر، هو مقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني، بل ويصبح جزءًا رئيسيًا من برامج القوى السياسية والنقابية والشبابية ومؤسسات المجتمع المدني، ويتداخل، بشكلٍ كامل، مع السياسات الداخلية في هذه الأقطار، ويُشكّل محورًا أساسيًا فيها، ويؤثر على مدى تأييد الأنظمة العربية المختلفة أو معارضتها. بل هو جزء من فعاليات هذه القوى في مواجهة تغلغل المشروع الصهيوني، ضمن دولها، ومنع التطبيع معه بكل أشكاله وصوره، بحيث تصبح المقاطعة ومقاومة التطبيع مهمة داخلية، ضمن البرنامج السياسي لهذه القوى، وليست تعبيرًا عن مجرد تضامن أو تأييد.
ولعل الأسئلة نفسها التي تواجه حركات المقاطعة في الخارج، من حيث ضرورة التوصل إلى قواسم مشتركة بين الحركات المختلفة، وتجنب النزاعات فيما بينها، والتصنيفات السلبية الناجمة عن الاختلاف حول قضايا محلية أو إقليمية، تؤثر أو تمنع التعاون بين هذه الجهات، فتبدو المقاطعة أضعف، وإمكانية الاستفراد بمنظماتها أو محاصرة نشاطاتها أقوى.
على أن النقطة المهمة، هنا، تكمن في تعريف ما هو التطبيع، من دون شطط فيه أو تهاون، ومن دون إلقاء الاتهامات جزافا، أو التماهي مع سياسات الدول، ويشمل ذلك قضايا مثل زيارة القدس بتأشيرة سفر إسرائيلية، أو القيام بنشاطاتٍ ثقافية أو فنية في الأراضي المحتلة، وغيرها من قضايا ما زالت محل خلاف، ومكاناً لإلقاء التهم والتراشق بها.
لكن، ثمّة جانب لا يقل أهميةً عن تعريف ماذا يعني التطبيع مع العدو الصهيوني بالنسبة للأفراد أو المؤسسات، وهو تطبيع الحكومات والعلاقات السياسية التي تنمو بينها وبين الكيان الصهيوني، بعد توقيع دولتين عربيتين على اتفاقات سلام معه، وسعي العدو الدائم إلى دور جديد في العالم العربي، في ظل أزمات الإقليم المشتعلة، وهو ما ينقل نشاطات المقاطعة ومقاومة التطبيع إلى أفقٍ أوسع، ويستلزم التعاون والتنسيق بين منظماتها، في داخل القطر الواحد، وبين الأقطار العربية مجتمعة.
في الأرض المحتلة
تخضع فلسطين كلها للاحتلال، وهي، في الوقت الذي تعاني فيه من الاحتلال، فإنّ مناطق أخرى تخضع للحصار، مثل قطاع غزة، في حين تواجه المناطق المحتلة منذ سنة 1948 سياسات التمييز والتهميش والاستيلاء على الأراضي، وفرض يهودية الدولة على المجتمع العربي، بما يتضمنه ذلك من طابع عنصري واضح، يضع سياسات التمييز العنصري، في إطار قانوني.
وفي المناطق العربية المحتلة، تواجه سياسة المقاطعة ومقاومة التطبيع تحدياتٍ كبرى، منشأها ربط هذه المناطق بالسياسات الاقتصادية الإسرائيلية، وضرب كل مقومات الاقتصاد الوطني، والاتفاقات المبرمة ما بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني، وحصارها، كما هو في غزة، حيث تشكل المعابر الإسرائيلية مع القطاع المنفذ الوحيد المفتوح، والخاضع لرقابة صهيونية مباشره على حركة انتقال السلع والبضائع من القطاع وإليه.
من البديهي، في مثل هذه الظروف، أن تشكل كل مقاومة للاحتلال مقاومةً للرضوخ لإرادته والقبول بشروطه، أو التطبيع معه، من مقاومة الاحتلال نفسه إلى التصدّي لسياساته العنصرية ومستوطناته وجداره العازل ومنتجاته. وفي ظل ذلك، السؤال الرئيس الذي يطرح على حركات المقاطعة يتمثل في ابتكار الأشكال والوسائل النضالية المناسبة، في ظل الظروف المشار إليها.
لا يمكن أن تنفصل المقاطعة ومقاومة التطبيع في داخل الأرض المحتلة عن تحديد أليات التعامل مع السلطة الفلسطينية، وممارسة الضغوط عليها، من أجل وقف (أو تقليص) أوجه التعاون المختلفة مع العدو أمنيًا وسياسيًا واقتصاديا، وتعزيز مؤسسات المجتمع المدني وخوض النضالات الجماهيرية، وتوحيد قواها وتعزيز مقومات دعم الصمود، لكي يمكن تنفيذ إجراءات مقاطعةٍ فعالة، مثل وقف العمالة الفلسطينية في إسرائيل، أو تعزيز الإنتاج الوطني، لكي تمكن مقاطعة الصناعة أو الزراعة الإسرائيلية، وهي مهماتٌ قد تتجاوز قدرات حركات المقاطعة في الداخل، وتتطلب حشدًا لمختلف القدرات الفلسطينية والعربية.
تشكل حركات المقاطعة، وإلى حين توفر ظروف أفضل، نبضًا للعالم وتعبيرًا عن ضميره الحي، وهي مهمةٌ كبرى، تثير عشرات الأسئلة عمّا تمّ القيام به، وما ينبغي فعله، وتضع أمام حركات المقاطعة، ومجمل القوى السياسية الفلسطينية والعربية، بل والمجتمع الدولي بأسره، مزيداً من التحديات من أجل دحر الاحتلال، وتحقيق الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، والتخلص من الاستعمار الصهيوني الإحلالي على أرض فلسطين.