ونجحت الإدارة التركية من خلال اتصالاتها الدبلوماسية، على الأقل حتى الآن، بضمان صمت عدد كبير من القوى الكبرى وتلك الفاعلة في الحرب السورية، وتأتي على رأسها روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا وأيضاً ألمانيا. وتمكّنت من تجنّب أي أزمة دبلوماسية كبيرة مع الحلفاء التقليديين في الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة، وسط اعتراضات تبدو خافتة من قبل فرنسا وإيران، بينما بدت القوى العربية الأخرى، كالعادة، أضعف من أن تتحرّك لوحدها.
أمّا من الناحية العسكرية، وإن كان من المبكر تقييم العملية، إلا أنّ سلاح الجو التركي، وعلى خلاف التوقعات، بدا قادراً على شنّ عمليات كبرى باستخدام 72 طائرة في اليوم الأول، في وقت متزامن مع تسيير طائرات إكمال الوقود، وكذلك الطائرات بدون طيار وطائرة "أواكس" للمراقبة، وذلك رغم أنه كان من أبرز المتأثّرين بحملة الإقالات التي تلت المحاولة الانقلابية الفاشلة في منتصف يوليو/ تموز 2016، وعانى من رفض الولايات المتحدة إرسال مدربين للطيارين الجدد، وكذلك منع باكستان من إرسال طياريها لمساعدة الأتراك.
أمّا من الناحية البرية، فلا يبدو بأن العمليات بدأت بشكل حقيقي بعد، كما أنه من غير المنتظر أن يستسلم الاتحاد الديمقراطي بسهولة للأتراك، بل غالباً ما يبدو بأن السيناريو الأقرب سيكون مقاومة شرسة في محاولة لإطالة المعركة أكبر وقتٍ ممكن، أملاً في رفع التعاطف الدولي ومحاولة قلب الساحة الدولية على الأتراك، على غرار ما حدث في عين العرب (كوباني) أثناء هجوم "داعش".
يأتي هذا، بينما اضطر "العمال الكردستاني"، أخيراً، بعد نحو أربع سنوات من المناورة، إلى الاختيار، بين كل من روسيا وأميركا، لصالح الأخيرة، في تحوّلٍ يمكن اعتباره انقلاباً في تاريخ علاقات الحزب الدولية على مدى تاريخه، إذ بدا بأنه تورّط أكثر من المتوقّع في العلاقات مع واشنطن، التي ورغم اختلاف نبرة التصريحات بين أجنحتها، إلاّ أن الثابت فيها، بأنها لن تدعم العمال الكردستاني ضد حليفتها تركيا، بأي شكل، على الأقل حتى الآن.
إلى ذلك، قطع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الشكوك، مؤكداً بأن العملية تلقى دعم موسكو، وقال أثناء اجتماع نقله التلفزيون في أنقرة "نحن مصممون، فمسألة عفرين سيتم حلها، ولن نتراجع. تحادثنا بهذا الشأن مع أصدقائنا الروس، ونحن متفقون"، بينما اتهمت "قسد"، روسيا، بعمل "لا أخلاقي" في عفرين لانسحاب قواتها ومن ثم إفساح المجال للطائرات التركية، معلنةً أنها تدرس إمكانية إرسال تعزيزات إلى المدينة للمساعدة في صد الهجوم التركي.
وبدا واضحاً، منذ البداية، من خلال التحركات التركية، بأن العملية برمّتها تمّت بالتنسيق مع موسكو، وبإبلاغ الحلفاء التقليديين في الغرب على مراحل. وكان الإبلاغ الأميركي في مرحلة مبكرة، الأمر الذي أكده، وزير دفاع الولايات المتحدة، جيمس ماتيس، يوم الأحد الماضي، بالقول: "لتركيا قلقها الأمني المشروع، وكانت صريحة معنا، لقد أبلغونا قبل شنّ الحملة الجوية التي كانوا يعتزمون القيام بها وبالتشاور معنا. نحن نعمل الآن على كيفية المضي قدماً".
وبينما بدت التصريحات الإيرانية الأولى فيما يخصّ "غصن الزيتون" أقرب للحياد، عاد وتغيّر الموقف الإيراني، يوم الأحد الماضي، على لسان المتحدث باسم الخارجية، بهرام قاسمي، الذي قال إن إيران: "تتابع عن كثب وبقلق الأحداث الجارية في مدينة عفرين، وتأمل انتهاء العمليات فوراً والامتناع عن تصعيد الأزمة في المناطق الحدودية بين تركيا وسورية"، مضيفاً أنّ "استمرار الأزمة في عفرين يمكن أن يؤدي إلى تقوية المجموعات التكفيرية الإرهابية مجدداً في المناطق الشمالية في سورية، وإشعال نيران الحرب والدمار من جديد في هذا البلد".
ولم يمض الكثير على تصريحات القاسمي، حتى أجرى رئيس الأركان التركي، الجنرال خلوصي أكار، مكالمة هاتفية، مع نظيره الإيراني، الجنرال محمد باقري، لتبادل وجهات النظر حول القضايا الأمنية في سورية والتعاون في مجال مكافحة المنظمات الإرهابية، بحسب ما ذكرت وكالة "الأناضول".
وعن الخلاف مع إيران، قال مصدر تركي مطلع لـ"العربي الجديد": "تمّ التجهيز للعملية بالتفاهم مع الروس فحسب، الأمر الذي يبدو بأنه أزعج الإيرانيين، إذ طالبوا أنقرة بأن تقوم بسحب قواتها من عفرين بعد انتهاء العمليات وتسليمها للنظام، ولكن تم رفض ذلك، إذ لا توجد أية ضمانات بأنّ النظام لن يقوم بتسليمها مرة أخرى للعمال الكردستاني للضغط علينا في أية مرحلة من مراحل الحرب التي لا يبدو أن لها نهاية قريبة"، مضيفاً "بكل الأحوال إن التزامنا بوحدة الأراضي السورية أمرٌ يقع في عمق مصالح أمننا القومي، وقلنا لهم، في حال وصلت مفاوضات أستانة وسوتشي إلى نتائج ناجحة وتمّ الاتفاق على الانتخابات والدستور، فإن عفرين ستكون تابعة لدمشق". وتابع المصدر "الإيرانيون لا يدعمون، من خلال موقفهم، العمال الكردستاني بأي شكل، ولكنهم يرفضون وجود ممرّ بين عفرين وإدلب، على أي حال المفاوضات مستمرة، ولا أعتقد بأن التوافق مع إيران أمرٌ صعبٌ".
وكان لفرنسا الصوت الأعلى بين الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن في الاعتراض على العملية التركية، من خلال تعبير وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، عن قلقه البالغ من العملية التركية في عفرين، إضافة إلى دعوته لعقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن لمناقشة التدهور المفاجئ للوضع في سورية، ليقوم وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، يوم الأحد، بإجراء مكالمة هاتفية مع نظيره الفرنسي، صرح بعدها من العاصمة العراقية بغداد، بالتأكيد على أن "أي اعتراض على العملية التركية يعني الوقوف إلى جانب الإرهاب"، في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني. ولكن وبما أن العملية التركية في عفرين نتاج اتفاق تركي روسي، فمن غير المنتظر أن تسمح روسيا بالتحرك ضد الاتفاق في مجلس الأمن، بينما تراه فرصة تاريخية لزيادة الشرخ بين أنقرة وواشنطن، الأمر الذي بدا واضحاً من خلال تصريحات وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الذي اتهم واشنطن بتقوية النزعة الانفصالية للأكراد في سورية من خلال تصرفاتها.
وتعليقاً على الموقف الفرنسي، قال المصدر التركي: "لم يتم التشاور مع الفرنسيين خلال التجهيز للعملية، بل تم إبلاغهم بها في وقت لاحق. الفرنسيون لا يريدون أن يفهموا بأن الوضع في المنطقة تغيّر، وسورية لم تعد مستعمرتهم".
في غضون ذلك، يبدو بأن زيارة جاووش أوغلو إلى بغداد، كانت في إطار محاولات أنقرة لفتح جبهة أخرى ضد العمال الكردستاني في العراق وتحديداً في منطقة سنجار التابعة للموصل، لزيادة الضغط على "الكردستاني"، ولكن لا يبدو بأن الإدارة العراقية ستعمد لذلك، بسبب الرفض الأميركي المحتمل، وكذلك من دون وجود رضا إيراني لذلك، وهو الأمر الذي قد ينتج عن المباحثات الجارية مع الأتراك.